(104)

(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ. . .) الآية، وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ)، (وَلَا تَحزَن عَليهِم)، كان حرصه على إيمانهم بلغ ما ذكر؛ حتى خفف ذلك عليه بهذه الآيات.

وقال بعض أهل التأويل: قوله - تعالى -: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ) يعني أهل مكة، (وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وهم كذلك؛ كانوا أكثرهم غير مؤمنين، وأهل مكة وغيرهم سواء كلهم؛ كذلك كانوا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) أي: على ما تبلغ إليهم وتدعوهم إلى طاعة اللَّه؛ وجعل العبادة له؛ وتوجه الشكر إليه؛ لا تسألهم على ذلك أجرًا؛ فما الذي يمنعم عن الإجابة لك فيما تدعوهم؛ والائتمار بأمرك؟! هذا يدل أنه لا يجوز أخذ الأجر على الطاعات والعبادات؛ حيث نهى وأخبر أنه لا يسألهم على ما يبلغ إليهم أجرًا، وهو لم يتولَّ تبليغ جميع ما أمر بتبليغه بنفسه إلى الخلق كافة، بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ. . .) الآية، ولكنه ولى بعضه غيره؛ كقوله: " ألا فليبلغ الشاهد الغائب "؛ فإذا لم يجز له أخذ الأجر فيما يبلغ هو؛ فالذي كان مأمورًا أن يبلغ عنه أيضا لا يجوز أن يأخذ الأجر على ما يبلغ.

وفي قوله: (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) وجهان:

أحدهما: أنه ليس يسألهم على الذي يبلغه إليهم ويدعوهم أجرًا؛ حتى يمنع بذل ذلك وثقله عن الإجابة.

والثاني: إخبار أن ليس له أن يأخذ؛ وأن يجمع من الدنيا شيئًا؛ كقوله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ. . .) الآية، ومعلوم أنه لا يمد عينيه إلى ما لا يحل؛ فيكون النهي عن أخذ المباح.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ).

أي هذا القرآن الذي تبلغهم ليس إلا ذكرى؛ وموعظة للعالمين، أو هو نفسه عظة وذكرى للعالمين؛ أعني: النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) أي شرف وذكرى لمن اتبعه وقام به، وهو ما ذكر في آية أخرى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)، وقوله: (آيَةً لِلْعَالَمِينَ)، أي منفعته تكون لمن اتبعه؛ فعلى ذلك هذا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015