هذا - واللَّه أعلم - ليعلم الناس ما لحق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بدعاء هَؤُلَاءِ السفهاء إلى دين اللَّه الذين لم يبالوا هلاك أنفسهم؛ لشدة بغضهم الحق، وجرأتهم على اللَّه، وما يتحمل منهم من العظيم.
وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
يحتمل قوله. (وَأَنْتَ فِيهِم) أي: في جملة المؤمنين أنه لا يعذب أحدًا في الدنيا ما دام هو فيهم، وما دام مؤمن فيهم بقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، أي: يؤمنون، وهو كما ذكر أنه أرسله رحمة بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ومن رحمته ألا يعذب أحدًا من أمته في الدنيا، إنما يؤخر ذلك إلى يوم التناد بقوله: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ. . .) وقوله: (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ).
ويحتمل أن يكون قوله: (وَأَنتَ فِيهِم): في أهل مكة خاصة أنه لا يعذبهم ما دام هو فيهم، وما دام فيهم أحد من المسلمين؛ من نحو النساء والذراري؛ كقوله: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ. . .) الآية. أي: لا نعذبهم وأنت يا مُحَمَّد فيهم، أي: بين أظهرهم حتى نخرجك من بينهم، (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، أي: يصلون.
وقيل: يؤمنون؛ وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولكن يعذبهم تعذيب القتال والجهاد، ولا يعذبهم تعذيب استئصال على ما أهلك سائر الأمم.
ثم إن المعتزلة تعلقت بظاهر قوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، أي سيؤمنون؛ أي: لا يعذبهم ما دام يعلم أن فيهم أحدًا يؤمن في آخر عمره، أو من قولهم ألا يجوز لله أن يهلك أحدًا إذا كان في علمه أنه سيؤمن في آخر عمره؛ لقولهم في الأصلح: إن اللَّه لا يفعل بخلقه إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين؛ فعلى ذلك تأولوا ظاهر هذه الآية أنه لا يعذبهم م وهم يستغفرون، أي: سيؤمنون.
لكن لو كان كما قالوا، لكان لا يجوز الجهاد معهم أبدًا، ويسقط الأمر بالقتال؛ إذ لعل فيهم من يسلم، فإذا أمره بالجهاد والقتال معهم، دل أن ذلك ليس ما توهموا، والله أعلم.