قَالَ بَعْضُهُمْ: من قرأ بالنصب، فهو يرجع إلى الغسل؛ نسقًا على الوجه، وبالخفض يرجع إلى المسح: مسح الخفاف؛ نسقًا على مسح الرأس، لكن هذا بعيد؛ لأنه تناقض: لا يجوز أن يأمر بالغسل والمسح جميعًا. ومعنى الخفض؛ لقرب جواره بقوله - تعالى -: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ)، وقد يجوز ذلك؛ نحو قوله تعالى: (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23). فمن قرأ بالخفض إنما قال: لقرب الجوار بالخفض؛ فعلى ذلك الأول، ثم الحكمة في الأمر بغسل هذه الأعضاء؛ ليذكرهم تطهير باطنهم.
والمعنى في غسل هذه الأعضاء الظاهرة - واللَّه أعلم - لمعنيين:
أحدهما: أما اليد شكرًا لما بها يتناول ويقبض. وأما الرجل؛ لما بها يمشي، وبها يصل إليه. والوجه؛ لأنه مجمع الحواس التي بها يعرف عظيم نعم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من نحو: البصر، والفم، وغيرهما من الحواس التي يكون بها التلذذ والتشهي.
أو أمر بذلك؛ تكفيرًا لما ارتكب بهذه الحواس من الإجرام؛ لأنه بها يُرتكب جُلُّ الآثام، وبها يوصل إليها من: المشي، والقبض، وغير ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا)
قيل: اغتسلوا: تأخذ الجنابة الظواهر من البدن وبواطنه، والحدث لا يأخذ إلا الظواهر من الأطراف؛ لأن السبب الذي يوجب الجنابة لا يكون إلا باستعمال جميع ما فيه من القوة؛ ألا ترى أنه به يضعف إذا أكثره وبتركه. يقوى؟! فعلى ذلك أخذ جميع البدن ظاهره وباطنه.
وأما الحدث: فإن سببه يكون بظواهر هذه الأطراف، من نحو: الأكل والشرب، والحدث ليس باستعمال كل البدن، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ. . .) الآية ذكر المرض والسفر والمجيء من الغائط، والملامسة، ثم الحكم لم يتعلق باسم المرض ولا باسم السفر؛ ولكن باسم الغائط، ولكن كان متعلقًا لمعنى فيه؛ ففيه دلالة جواز القياس؛ لأنه ذكر الغائط والمجيء منه، والغائط: هو المكان الذي تقضى فيه الحاجات، والمراد منه: المعنى وهو قضاء الحاجات؛ فهذا أصل لنا أن النص إذا ورد لمعنى، فوجد ذلك المعنى في غيره - وجب ذلك الحكم في ذلك الغير، فإذا عدم الماء