(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) " إِنْ" نَافِيَةٌ بِمَعْنَى مَا أي ما كل من في السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُقِرًّا لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ خَاضِعًا ذَلِيلًا كَمَا قَالَ:" وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ" (?) [النمل: 87] أَيْ صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ أَيِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَدًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كبيرا. و" آتي" بِالْيَاءِ فِي الْخَطِّ وَالْأَصْلُ التَّنْوِينُ فَحُذِفَ اسْتِخْفَافًا وأضيف. الثانية- في هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لِلْوَالِدِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِنَّهُ يَشْتَرِيهِ فَيَمْلِكُهُ وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا أَعْتَقَهُ. وَقَدْ أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْمِلْكِ فَإِذَا مَلَكَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ بِنَوْعٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ عَتَقَ عَلَيْهِ. وَوَجْهُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْوَلَدِيَّةَ وَالْعَبْدِيَّةَ فِي طَرَفَيْ تَقَابُلٍ فَنَفَى أَحَدَهُمَا وَأَثْبَتَ الْآخَرَ وَلَوِ اجْتَمَعَا لَمَا كَانَ لِهَذَا الْقَوْلِ فَائِدَةٌ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مملوكا فيشتريه فيعتقه) خرجه مُسْلِمٌ. فَإِذَا لَمْ يَمْلِكِ الْأَبُ ابْنَهُ مَعَ مَرْتَبَتِهِ عَلَيْهِ فَالِابْنُ بِعَدَمِ مِلْكِ الْأَبِ أَوْلَى لِقُصُورِهِ عَنْهُ. الثَّالِثَةُ- ذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ) أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذُكُورُ الْعَبِيدِ دُونَ إِنَاثِهِمْ فَلَا يَكْمُلُ عَلَى مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا فِي أُنْثَى وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:" إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً" فإنه قد يتناول الذكر والأنثى من العبيد (?) قطعا. وتمسك إسحاق بأنه قد حُكِيَ عَبْدَةٌ فِي الْمُؤَنَّثِ. الرَّابِعَةُ- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [الْبقرةِ (?)] وَغَيْرِهَا وَإِعَادَتُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الموضع حسن جدا.