تفسير القرطبي (صفحة 3781)

وَإِنَّمَا شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَنِيفِيَّةً سَمْحَةً خَالِصَةً عَنِ الْحَرَجِ خَفِيفَةً عَلَى الْآدَمِيِّ، يَأْخُذُ مِنَ الْآدَمِيَّةِ بِشَهَوَاتِهَا وَيَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. وراي الفراء وَالْمُخْلِصُونَ مِنَ الْفُضَلَاءِ الِانْكِفَافَ عَنِ اللَّذَّاتِ وَالْخُلُوصَ لرب الأرض والسموات الْيَوْمَ أَوْلَى، لِمَا غَلَبَ عَلَى الدُّنْيَا مِنَ الْحَرَامِ، وَاضْطُرَّ الْعَبْدُ فِي الْمَعَاشِ إِلَى مُخَالَطَةِ مَنْ لَا تَجُوزُ مُخَالَطَتُهُ وَمُصَانَعَةِ مَنْ تَحْرُمُ مُصَانَعَتُهُ، فَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ، وَالْفِرَارُ عَنِ الدُّنْيَا أَصْوَبُ لِلْعَبْدِ وَأَعْدَلُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أتى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ «1» الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ". قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أَيْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَحْزَنْ عَلَى مَا مُتِّعُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا فَلَكَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقِيلَ: لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إِنْ صَارُوا إِلَى الْعَذَابِ فَهُمْ أَهْلُ الْعَذَابِ. (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أَيْ أَلِنْ جَانِبَكَ لِمَنْ آمَنَ بِكَ وَتَوَاضَعْ لَهُمْ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا ضَمَّ فَرْخَهُ إِلَى نَفْسِهِ بَسَطَ جَنَاحَهُ ثُمَّ قَبَضَهُ عَلَى الْفَرْخِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ وَصْفًا لِتَقْرِيبِ الْإِنْسَانِ أَتْبَاعَهُ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ خَافِضُ الْجَنَاحِ، أَيْ وَقُورٌ سَاكِنٌ. وَالْجَنَاحَانِ مِنَ ابْنِ آدَمَ جَانِبَاهُ، وَمِنْهُ" وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ «2» " وَجَنَاحُ الطَّائِرِ يَدُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَحَسْبُكَ فِتْيَةٌ لِزَعِيمِ قَوْمٍ ... يَمُدُّ عَلَى أَخِي سَقَمٍ جَنَاحَا

أي تواضعا ولينا.

[سورة الحجر (15): الآيات 89 الى 90]

وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)

فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ عَذَابًا، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ، إِذْ كَانَ الْإِنْذَارُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:" أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ «3» وَثَمُودَ". قيل: الْكَافُ زَائِدَةٌ، أَيْ أَنْذَرْتُكُمْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين، كقوله:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «4» " أنذرتكم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015