تفسير القرطبي (صفحة 3056)

وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ" عَائِلَةً" وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْقَائِلَةِ مِنْ قَالَ يَقِيلُ. وَكَالْعَافِيَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: حَالًا عَائِلَةً، وَمَعْنَاهُ خَصْلَةٌ شَاقَّةٌ. يُقَالُ مِنْهُ: عَالَنِي الْأَمْرُ يَعُولُنِي: أَيْ شَقَّ عَلَيَّ وَاشْتَدَّ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ: عَالَ يَعُولُ إِذَا افْتَقَرَ. السَّادِسَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْقِ جَائِزٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَافٍ لِلتَّوَكُّلِ وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مُقَدَّرًا وَأَمْرُ اللَّهِ وَقَسْمُهُ مَفْعُولًا وَلَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً لِيَعْلَمَ الْقُلُوبَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْبَابِ مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي تَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّبَبَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا) (?). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَكُّلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُضَادُّهُ الْغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَكِنَّ شُيُوخَ الصُّوفِيَّةِ قَالُوا: إِنَّمَا يَغْدُو وَيَرُوحُ فِي الطَّاعَاتِ فَهُوَ [السَّبَبُ (?)] الَّذِي يَجْلِبُ الرِّزْقَ". قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ" (?) [طه: 132] الثَّانِي- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" (?) [فاطر: 10]. فَلَيْسَ يُنْزِلُ الرِّزْقَ مِنْ مَحَلِّهِ، وَهُوَ السَّمَاءُ، إِلَّا مَا يَصْعَدُ وَهُوَ الذِّكْرُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَلَيْسَ بِالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رِزْقٌ. وَالصَّحِيحُ مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنَ الْحَرْثِ وَالتِّجَارَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْعِمَارَةِ لِلْأَمْوَالِ وَغَرْسِ الثِّمَارِ. وَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهر هم. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبُوا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ. وَقَالَ:" فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ" (?) [البقرة: 173]. فأحل للمضطر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015