تفسير القرطبي (صفحة 220)

قَدْ حَتَّمَ عَذَابَهُمْ، فَهَذَا عَلَى تَأَمُّلِ الْبَشَرِ كَأَنَّهُ اسْتِهْزَاءٌ وَمَكْرٌ وَخِدَاعٌ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ). ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ:" فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (?) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ" [الانعام: 45 44]. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ (?) حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ": [الأعراف: 182] كُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا أَحْدَثَ لَهُمْ نِعْمَةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَمُدُّهُمْ) أَيْ يُطِيلُ لَهُمُ الْمُدَّةَ وَيُمْهِلُهُمْ وَيُمْلِي لَهُمْ، كَمَا قَالَ:" إِنَّما نُمْلِي (?) لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً" [آل عمران: 178] وَأَصْلُهُ الزِّيَادَةُ. قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: يُقَالُ مَدَّ لَهُمْ فِي الشَّرِّ، وَأَمَدَّ فِي الْخَيْرِ، قال الله تعالى:" وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ (?) ". [الاسراء: 6]. وقال:" وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ (?) وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ" [الطور: 22]. وَحُكِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ: مَدَدْتُ لَهُ إِذَا تَرَكْتُهُ، وَأَمْدَدْتُهُ إِذَا أَعْطَيْتُهُ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ وَاللِّحْيَانِيِّ: مَدَدْتُ، فِيمَا كَانَتْ زِيَادَتُهُ مِنْ مِثْلِهِ، يُقَالُ: مَدَّ النَّهْرُ [النَّهْرَ (?)]، وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ (?) مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ" [لقمان: 27]. وَأَمْدَدْتُ، فِيمَا كَانَتْ زِيَادَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ، كَقَوْلِكَ: أَمْدَدْتُ الْجَيْشَ بِمَدَدٍ، وَمِنْهُ:" يُمْدِدْكُمْ (?) رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ". [آل عمران: 125]. وَأَمَدَّ الْجُرْحُ، لِأَنَّ الْمِدَّةَ مِنْ غَيْرِهِ، أَيْ صَارَتْ فِيهِ مِدَّةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي طُغْيانِهِمْ) كُفْرُهُمْ وَضَلَالُهُمْ. وَأَصْلُ الطُّغْيَانِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ قوله تعالى:" إِنَّا لَمَّا طَغَى (?) الْماءُ" [الحاقة: 11] أَيِ ارْتَفَعَ وَعَلَا وَتَجَاوَزَ الْمِقْدَارَ الَّذِي قَدَّرَتْهُ الخزان. وقوله في فرعون:" إِنَّهُ طَغى " (?) [طه: 24] أَيْ أَسْرَفَ فِي الدَّعْوَى حَيْثُ قَالَ:" أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى " [النازعات: 24]. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: يَمُدُّهُمْ بِطُولِ الْعُمْرِ حَتَّى يَزِيدُوا فِي الطُّغْيَانِ فَيَزِيدُهُمْ فِي عَذَابِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَعْمَهُونَ) يَعْمُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ فِي الْكُفْرِ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ: عَمِهَ الرَّجُلُ يَعْمَهُ عُمُوهًا وَعَمَهًا فَهُوَ عَمِهٌ وَعَامِهٌ إذا حار، ويقال رجل عامه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015