وقوله: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) (ثم) استبعادية، وهي مناسبة للمقام؛ إذ يبعد من العاقل الناظر بعد إقامة الدليل اختيار الباطل، فالشخص العاقل الذي يتأمل في هذه الآيات ينبغي أن تقوده إلى التوحيد، ويبعد جداً من العاقل أنه بعد أن يرى الدليل وتقام عليه الحجة يختار مع ذلك الباطل، ولذلك قال: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وعليه فجمع الظلمات وإفراد النور ظاهر؛ فإنه قال: (وجعل الظلمات والنور) فأتى بالظلمات بصيغة الجمع، أما النور فأتى به مفرداً؛ لأن الهدى واحد، والضلال متعدد، كما قال في آخر هذه السورة الكريمة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فأفرده، ثم قال: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] فجمع السبل.
فجمع الظلمات لظهور كثرة أسبابها عند الناس، فالباطل كثير جداً ومتعدد، وهو كثير عند الناس كما هو معروف، ولكل جرم ظلمة، وليس لكل جرم نور، وأما تقديمها فلسبقها في التقدير والتحقق على النور؛ لأن الظلام يسبق النور، فلذلك قدم الظلمات على النور؛ لأن الأصل هو الظلمة، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة يس: {وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37] أن الأصل هو الليل، ثم يسلخ ويزال هذا الليل فيكون النهار، ولو أن إنساناً ركب مركبة فضائية وانطلق من الغلاف الجوي فإنه إذا خرج عن الغلاف الجوي -وقد يكون في وقت الضحى وفي شدة النهار والشمس- يكون في ظلمة مطبقة.
إذاً: فموضوع النهار ظاهرة محلية في الكرة الأرضية فقط.
فالظلمة هي المتقدمة على النور من حيث الإيجاد والخلق، ولذلك قدمها تبارك وتعالى هنا فقال: (وجعل الظلمات والنور).
وقوله: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) هذا الجزء من الآية منسوب لإنكار ما عليه الكفرة، واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها، وإصرارهم على ما يقضي على بطلانه بديهة العقول، والمعنى أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته عز وجل، وباعتبار ما فصَّل من شئونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه، ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه، ويعدلون به سبحانه وتعالى، ويسوون بينه وبين الأنداد والشركاء، أي: يسوون به غيره في العبادة؛ لأن العبادة هي أقصى غايات الشكر لله سبحانه وتعالى، فإذا وجهوا هذه العبادة لغير الله فقد سووا مع الله سبحانه وتعالى خلقه، وأقصى غايات الشكر ورأس الشكر هو الحمد؛ لأن الحمد أعم من الشكر، مع كون كل ما سواه عز وجل مخلوقاً له، والمخلوق غير متصف بشيء من مبادئ الحمد، ومع ذلك وقع منهم ذلك.
فقوله: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) كلمة (ثم) لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه.
وقوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) العدل: مساواة الشيء بالشيء.
والمعنى أنهم يجعلون له عديلاً من خلقه، أي: عدلاً مساوياً له تبارك وتعالى وهو لا يقدر على شيء، فيعبدون الحجارة مع إقرارهم بأن الله خلق السماوات والأرض.
قال النضر بن شميل: الباء في قوله: (بربهم يعدلون) بمعنى (عن) يعني: عن ربهم يعدلون.
ومعنى (يعدلون): ينحرفون.
يقال: عدلت عن كذا، أي: انحرفت وملت.
والمراد: ينحرفون عن عبادة ربهم تبارك وتعالى.
وقال ابن عطية رحمه الله تعالى: (ثم) دالة على قبح فعل الذين كفروا؛ لأن المعنى أن خلقه السماوات قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: أعطيتك وأحسنت إليك ثم تشتمني.