ثم بين استهزاءهم بحكم خاص من أحكام الدين، وذلك بعد استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهاراً لكمال شقاوتهم، فقال عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:58].
قوله تعالى: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)) يعني: إذا دعوتم إليها بالأذان.
فالأذان ثابتة مشروعيته في القرآن، والدليل هذه الآية: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ))، والصلاة ينادي لها بالأذان.
((اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا)) وهذا الأمر كان يصدر فيما مضى من الكفار أو اليهود أو النصارى أو المشركين، أما الآن فترى من ينتسبون زوراً إلى الإسلام يسخرون من الصلاة، ويسخرون ممن يصلون، بعبارات الاستهزاء والاستخفاف بالدين ممن ينتسبون زوراً إلى دين الله عز وجل.
فقوله تعالى: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)) يعني: دعوتم إليها بالأذان (اتخذوها) يعني: اتخذوا الصلاة أو المناداة ((هُزُوًا وَلَعِبًا)) بأن يستهزئوا بها (ذَلِكَ) أي: ذلك الاتخاذ (بِأَنَّهُمْ) يعني: بسبب أنهم ((قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)) أي: لا يعقلون معاني عبادة الله، فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والدين، فالذي ليس عنده عقل يدرك به عظمة هذه العبادة العظيمة يسخر منها ويضحك، ولو كان لهم عقول في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة، فإن الصلاة أكمل القربات، وفي النداء -الأذان- معان شريفة من تعظيم الله باعتبار ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن ذكر توحيده باعتبار ذاته، وباعتبار عدد المغايرة في أسمائه وصفاته، ومن تعظيم رسوله باعتبار قيامه بمصالح المعاش والمعاد، وفي الصلاة من حيث هي الصلة ما بين العبد وبين الله، ومن حيث إفادتها معاني الدرجات والفلاح في الظاهر والباطن، وما هو غاية مقصدهم من القرب من الله باعتبار عظمته سبحانه، ومن الوصول إلى التوحيد الحقيقي.
قال السدي في قوله تعالى: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا)) قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: حرق الكاذب! والعياذ بالله.
يعني: حينما يأتي ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: حرق الكاذب.
فيدعو بالإحراق -والعياذ بالله- على الكاذب، يعني بذلك محمداً عليه الصلاة والسلام، والعياذ بالله! قال: فدخل خادمه ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله.
فاستجيبت دعوته؛ لأنه كان يدعو بأن يحرق الكاذب، وقد أحرقه الله؛ لأنه هو الكاذب.
وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال: عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه.
فـ عتاب يتكلم عن والده بأن إن الله أكرمه بأنه لم يكن موجوداً بحيث يسمع هذا الأذان الذي يؤذيهم، فربما يسمع منه ما يغيظه.
فقال الحارث بن هشام: والله لو أعلم أنه محق لاتبعته.
فقال أبو سفيان: وأنا لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى.
يقصد أن الوحي يبلغه، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد علمتُ الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال لكل منهم: لقد قلت كذا، فقال: الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك.
فلم يبق إلا أن الله هو الذي أخبره عن طريق الوحي.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن المحيريب - ابن المحيريب وكان يتيماً في حجر أبي محذورة - قال: قلت لـ أبي محذورة: يا عم! إني خارج إلى الشام، وأخشى أن أسأل عن تأذينك.
وقد كان أذان أبي محذورة مشهوراً، فهو يقول: قد يسألني الناس في الشام -بعد ما شاع الإسلام وانتشر- عن صفة تأذين أبي محذورة.
قال: فأخبرني أن أبا محذورة قال له: نعم، خرجت في نفر، فكنا ببعض طريق حنين، فقفل -أي: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين- فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكرون، فصرخنا نحكي ونستهزئ به -يعني: كانوا يرددون الأذان سخرية- فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليّ، فصدقوا، فأرسلهم وحبسني، فقال: قم فأذن.
فقمت ولا شيء أكره إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مما يأمرني به، فخضت بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فألقى إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين بنفسه، فقال: (قل: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله.
ثم قال لي: ارجع فامدد من صوتك، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أَمرَّها على وجهه مرتين، ثم مرتين على يديه، ثم على ثديه، ثم على كبده، ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك وبارك عليك.
فقلت: يا رسول الله! أمرني بالتأذين بمكة.
فقال: قد أمرتك به.
فقال أبو محذورة: وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وهذه الآية دلت على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، والمقصود هنا في أمر الدين، حيث يقول: تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:57 - 58].
وللأسف أنه في هذا الزمن سمعنا عمن يسخر من الأذان، وأذكر أن الدكتور: عبد الله عزام رحمه الله تعالى كان يحكي عن أيام المنظمات الفلسطينية أنه كان في معسكرات التدريب يقوم هو والشباب معه إذا حضر وقت الصلاة بالتأذين، فكان يأتي الفلسطينيون الملاحدة الشيوعيون، ويصفون صفاً أمامه، ويسخرون منه وهو يؤذن، ويرفعون صوتهم حتى يغلبوا صوت الأذان ويشوشوا عليه، وينشدون: إن تسل عني فهذه قيمي أنا ماركسي ليني أممي أي: إذا كنت ترفع الصوت بالأذان فهذا هو أذاننا!! وقد دلت هذه الآيات -أيضاً- على أن الاستهزاء بالدين كفر، لقوله تعالى: ((الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ))، فهذا يدل على أن أي فعل من المسلم يصدر منه من كونه يستهزئ بالدين، أو يسخر من الدين أو من أي شيء يمت إلى الدين بصلة فهو كفر وخروج عن ملة الإسلام، وأن الهزل فيه كالجد، سواءٌ أكان استخفافاً بالله، أم برسوله عليه الصلاة والسلام، أم بالملائكة، أم بنبي من الأنبياء، أم بكتاب من الكتب، وكذلك السخرية من حكم شرعي، أو التشنيع على حكم شرعي كأن يقال: هذه وحشية، وهذه قسوة.
أو غير ذلك، فالسخرية بأي حكم من أحكام الدين خروج من ملة الإسلام، وهذا لا يعذر فيه بالجهل؛ لأنه لا يجهل أحد تعظيم الله عز وجل، فهل يوجد أحد يجهل أن الله يعظم؟! بل اليهود يعظمون الله، والنصارى يعتقدون تعظيم الله، والمسلمون كذلك، فلا يقبل بحال من شخص جهله بأن الله يجب تعظيمه، فإذا سخر من الله، أو سخر من الدين، أو سخر من الإسلام، أو من حكم شرعي فمثل هذا لا يعذر فيه بالجهل، بل يحكم بكفره، والهزل فيه كالجد، كما قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، يقول في الإكليل: الآية أصل في تكفير المستهزئ بشيء من الشريعة.
وقد دلت الآية -كما سبق ذكره- على أن للصلاة نداءً، وهو الأذان، فهي أصل فيه، قال الزمخشري: قيل: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده.
ولما نهى تعالى عن تولي المستهزئين أمر بأن يخاطبوا بأن الدين منزه عما يصحح صدور ما صدر عنهم من الاستهزاء، ويظهر لهم سبب ما ارتكبوا، ويلقبوا الحذر، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَ