يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}، إلى آخر الآية.
ولا يجوز بعد ثبوت الحد عليه بالبينة أو الإقرار تأخيره لا بحسب ولا مال يفتدى به ولا غيره، بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها، فإن إقامة الحدود من العبادات كالجهاد في سبيل الله، وينبغي أن يعرف أن إقامة الحد رحمة من الله عز وجل بعباده، فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله.
وقد نهى الله تعالى عن أن إنساناً رأفة في حدود الله فقال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فهذا الذي يوصف بأنه رحمة أو رأفة أو مشاعر إنسانية أو غير ذلك إذا كان فيه مصادمة لشرع الله فهذا منهي عنه، مثل إقامة حد الزنا، فينبغي أن يكون هناك قوة في إقامة حد الله عز وجل، وعدم تردد أو ضعف أو شفقة؛ لأن هذا هو من صالح البشر، ولذلك قال عز وجل: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، ومثل الرجل الذي تأخذه رأفة بأولاده في أن يوقظهم لصلاة الفجر والجو بارد أو غير ذلك من الأعذار، فيجد في قلبه رأفة في دين الله، فهنا يقال له: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] فهذا من الرأفة المحرمة والممنوعة، وليس من الصفات التي يحبها الله، وليس من الرحمة التي يحبها الله عز وجل أن تكون في قلوب عباده، فذلك منهي عنه مادام على حساب الدين، فلا ينبغي أبداً أن تأخذ الإنسان رأفة.
وكذلك التوسط بين أهل المعاصي والعشاق وغير ذلك، بحجة أن هذا نوع من الرأفة بهم، فهذا -أيضاً- ليس رأفة، بل هو تعاون على العدوان وعلى حرمات الله تبارك وتعالى.
فأعداء الإسلام من المنافقين والزنادقة الذين يزعمون الإسلام ثم يطعنون في الشرائع -كما يحصل من المنتسبين لأعضاء لجنة حقوق الإنسان في كل البلاد خاصة في مصر- نسمع منهم كلاماً تقشعر منه الجلود، ولا يصح بعده الانتساب للإسلام أبداً، حيث يطعنون في العقوبات والحدود، ويطعنون في بعض البلاد التي تطبق بعض الحدود وإن كان تطبيقاً غير كامل، ويطعنون في الإسلام من خلال الطعن في هذه الدول على أن هذه عقوبات بدنية أو مادية، ويحتكمون إلى قوانين بشرية وما يسمى بمواثيق حقوق الإنسان الظالمة.
يقول شيخ الإسلام: فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، لا إشفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق، بل بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديب ولده -كما تفعل به الأم رقة ورأفة- لفسد الولد، والغالب أن الأمهات لا يحزمن في تربية الأولاد، فإذا كان الأب غير جازم ولم يضع الشدة في موضعها فسد الولد بالتدليل الزائد إذا ترك لأمه، وإنما يؤدبه رحمة وإصلاحاً حاله، فالأب إذا عاقب ولده ليس قسوة عليه، وليس إشفاء لغليله أو غيظه، وإنما لإصلاحه، فالشدة هي نوع من العلاج وليست لشفاء الغيظ.
يقول: وهو بمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجامة، وقطع العروق ونحو ذلك، بل في منزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة، فكذلك شرعت الحدود لأجل هذه النية، ولأجل تحصيل هذه المصالح.
ثم يقول تبارك وتعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وإظهار الاسم الجليل فيه إشعار بعلة الحكم، وتأييد استقلال الجملة في قوله: ((إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)).
وكذا في قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:40].
والمراد الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه، فيقول: ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر والابتلاء الباهر المستلزمين للقدرة التامة على التصرف في نيتيهما وفيما فيهما.
وقوله تعالى: (يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء) قدم التعذيب لأن السياق هنا في الوعيد، فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر.
(والله على كل شيء قدير) ومنه التعذيب والمغفرة.