يقول أبو السعود: لما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال -يعني: يمكن أن تقع المرأة في السرقة كما يقع الرجل- صرح بالسارقة أيضاً مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريق الدلالة؛ لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر.
لأن الحكم حتى لو كان بذكر السارق دون السارقة لشمل النساء، لكنه هنا فصل وبين وذكر النساء بعدما ذكر الرجال لمزيد الاعتناء؛ وللمبالغة في الزجر عن السرقة في حق الطرفين، ولما كانت السرقة في الرجال غالبة لقوتهم بدأ بالسارق، حيث قال تعالى: (والسارق والسارقة)؛ لأن الرجل أقوى، فلذلك يستطيع أن يستغل قوته في السرقة، ثم إن الرجل هو الذي يلي النفقة وتكاليف الحياة والعيش، فهو المسئول عن الإنفاق والمال، فلذلك الغالب أن الرجل هو الذي يسرق، أما في آية سورة النور فقال عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] وقد ذكر بعض المفسرين أن هذا التقديم السبب فيه هو أن هذا الأمر في النساء أقوى، وهذا غير صحيح في الحقيقة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى أحل للرجل أربع نسوة، فالأمر بالعكس، لكن لما كانت الفتنة دائماً أو غالباً في هذا الباب إنما تقع من جهة المرأة قبل الرجل، ولأنها تفرط في الاحتشام وغير ذلك فتقع بسببه الفواحش قدم تبارك وتعالى المرأة في قوله: (والزانية والزاني).
وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء انتقد فيه نصاب السرقة بكون ربع دينار، ونظم في ذلك شعراً فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار فهذا الإشكال الذي أورده من عدوانه على حدود الله تبارك وتعالى.
فيقول: هذه اليد في حالة الدية والقصاص ديتها خمسمائة دينار، فكيف تكون قيمتها في الدية خمسمائة دينار ثم في مقابلة سرقة ربع دينار -الذي هو النصاب- تقطع في مقابلة هذا المبلغ الهين؟! فأجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أنه قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت.
فلما خانت هانت فقطعت في ربع دينار، فبسبب هذه الخيانة صارت قليلة القيمة بهذا القدر.
ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها؛ لأن الناس إذا عرفوا هذه القيمة الغالية لليد من حيث الدية فإنهم لا يجنون ولا يعتدون عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار؛ لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال عز وجل: ((جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) أي: مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهما، فناسب أن يقطع ما استعان به في ذلك.
فهذا هو حكم الله تبارك وتعالى، وهذا هو حد الله عز وجل، وإذا كنا نقول: إن هذا حكم الله وهذا الذي أنزله الله في القرآن الكريم فنقطع بأن أي إنسان حاول أن يتناول هذا التشريع بالإزدراء أو وصفه بالوحشية أو القسوة أو غير ذلك من الصفات المنفرة فإنه وإن كان كافراً يزداد بذلك كفراً، وإن كان من المنتسبين للإسلام فلا شك في ردته، لا شك في ردته وخروجه من ملة الإسلام، فأي إنسان يصف حكم الله عز وجل بهذه الأوصاف الشنيعة فهو مرتد خارج عن الملة؛ لعدوانه على حكمة التشريع، ولمصادمته هذا النص الصريح في القرآن الكريم.