قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة:5] يعني: وأي شيء أشعرك -يا محمد- ما الحطمة؟ ثم أخبره عنها فقال جل ثناؤه: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} [الهمزة:6 - 7] يعني: التي يطلع ألمها ووهجها القلوب، تطلع بمعنى يصل عذابها ويبلغ، وسمع من العرب قولهم: متى طلعت أرضنا؟ يعني: متى وصلت أرضنا؟ أو متى بلغت أرضنا؟ إذاً: معنى (تطلع): تصل وتبلغ، فتأكل الجلد ثم اللحم ثم تنفذ في النهاية إلى القلب وهو ألطف شيء في بدن الإنسان، فمعنى ذلك: أنه يبلغ أقصى درجات العذاب والعياذ بالله.
يقول الشوكاني: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة:5]، هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع حتى كأنها ليست مما تدركه العقول وتبلغه الأفهام، ثم فسر الله عز وجل الحطمة فقال: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:6] أي: هي نار لا كسائر النيران، التي تعرفونها، ((نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ)) موقدة بأمر الله عز وجل، أي: هي النار التي لا تنسب إلا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو منشئها في عالم لا يعلمه سواه.
يقول أبو السعود: وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالإيقاد من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه.
وقوله: ((الْمُوقَدَةُ))؛ لأنها غير خامدة.
وهذه الإضافة إلى الله سبحانه وتعالى إضافة للتخصيص، فهي نوع معين من النيران، وليست كالنيران التي يعرفونها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم) (ناركم) فأضافها إلى المخاطبين، وفي لفظ آخر قال صلى الله عليه وسلم: (نار بني آدم التي يوقدون)، فلبني آدم نار، ولكن جهنم ليست كنار بني آدم التي تعرفونها لكنها نار الله الكبرى كما جاء في آية أخرى، فلو جمعنا كل النيران التي على وجه الأرض فهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم! (قالوا: والله إن كانت لكافية، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها)، رواه البخاري ومسلم والترمذي.
قال الغزالي: نار الدنيا لا تناسب نار جهنم، ولكن لما كان أشد عذاب الدنيا عذاب هذه النار عرف عذاب نار جهنم بها، وهيهات لو وجد أهل الجحيم مثل هذه النار لخاضوها هرباً مما هم فيه والعياذ بالله! يعني: أهل جهنم لو يروا مثل هذه النار التي لو جمعنا كل نار الدنيا واجتمعت في مكان واحد وأهل الجحيم رأوها لخاضوها وألقوا بأنفسهم فيها هرباً مما هم فيه من جحيم الآخرة والعياذ بالله!.
نار جهنم هي نار الله الموقدة، وهي لا تخمد أبداً، فنار الدنيا يمكن أن تخمد، لكن نار الله عز وجل هي الموقدة، وهذه صفة ثابتة لها لا تنفك عنها.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: أترونها حمراء كناركم هذه؟! يعني: لا يحملنكم هذا الوصف من النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة جهنم أن تظنوها حمراء؛ لأن نار الدنيا يمكن أن ننتفع بضوئها أو بدفئها، قال: لهي أسود من القار! والقار هو: الزفت.
قال الباجي: ومثل هذا لا يعلمه أبو هريرة إلا بتوقيف؛ لأنه خبر غيبي، ولا يخبر به أبو هريرة إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، فله حكم الرفع.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بشدة أمرها في الحر، وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يخبر عن شدة أمرها في لونها؛ لأن سوادها أشد في العذاب وفي النكال، يقول بعض السلف: عجباً لمن علم أن الجنة تزين فوقه، والنار تسعر تحته، كيف ينام بينهما؟ قوله: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} [الهمزة:7].
يقول ابن الجوزي: أي: تأكل اللحم والجلود حتى تقع على الأفئدة فتحرقها.
أولاًَ تبدأ باللحم والجلود ثم تصل إلى القلب، وتطلع يعني: تصل وتبلغ إلى القلوب والعياذ بالله! ثم ما صفة جلد الكافر؟ جلده ليس كالجلد في الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن غلظ -يعني: سمك- جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً)، فالكافر يزاد في خلقه يوم القيامة حتى جاء في الحديث: (إن ضرس الكافر يكون مثل جبل أحد)، فيزاد في حجمه حتى يزداد إحساسه بالعذاب، وجبل أحد طوله ستة آلاف متر، يعني: ستة كيلو متر، فهذا قدر ضرس الكافر في جهنم والعياذ بالله! قال: (وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة مرفوعاً: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع) رواه مسلم.
قال الفراء: حتى يبلغ ألمها الأفئدة، والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى واحد، والعرب تقول: متى طلعت أرضنا؟ أي: بلغت.
وقال ابن قتيبة: ((تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ)) أي: توفي عليها وتشرف.
وقال الشوكاني: أي: يخلص حرها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها، وخص الأفئدة مع كونها تغشى جميع الأبدان؛ لأنها محل العقائد الزائفة.