اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين هو مكة المشرفة، الآمن أهلها أن يحاربوا، فهذا الحرم آمن وأمين في اللغة بمعنى: آمن، كما قال الشاعر: ألم تعلمي يا أسم ويحكِ أنني حلفت يميناً لا أخون أميني! أميني: أي: آمني، فمكة هي البلد الأمين، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67].
أما المقسمات بها قبل ففيها أقوال للسلف؛ لاحتمال موادها لكل البشر، وقد أقسم بأربعة أشياء وهي: التين، والزيتون، وطور سنين، وهذا البلد الأمين.
فالثلاثة الأولى هي محل الخلاف، لكن البلد الأمين لم يختلف في أنها مكة، فعن مجاهد والحسن أن التين: الذي يؤكل، والزيتون: الذي يُعصر، قالوا: وخصّهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما.
وعن قتادة قال: التين: هو الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس.
وعن كعب وابن زيد: التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس.
وعن ابن عباس: التين: مسجد نوح الذي بُني على الجودي، والزيتون: بيت المقدس.
فظهر أنهما الشجرتان المعلومتان أو جبلان أو مسجدان.
وصوّب ابن جرير الأول منها، وهو: أن التين والزيتون هما الشجرتان المعروفتان، حيث قال: والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: التين هو التين الذي يؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يُعصر منه الزيت؛ لأن ذلك هو المعروف عند العرب، ولا يُعرف جبل يسمى تيناً، ولا جبل يقال له: زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام: القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهباً، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوّز خلافه؛ لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون.
انتهى كلامه وفيه نظر؛ لأن مَن حَفظ حجة على من لم يحفظ.