تفسير قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك)

قال عز وجل: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] يعني: بالنبوة، وفرض الاعتراف برسالتك.

ولذلك: يجب على كل إنسان من البشر أن يؤمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان به شرط في قبول الإيمان وصحته؛ ولأنه لا يمكن أبداً أن يدخل أحد الجنة بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إلا من طريقه.

وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة عليه الصلاة والسلام، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.

وقال مجاهد: لا أُذكر إلا ذكرت معي.

قال الشهاب: وهذا -أي: قول مجاهد - إن أخذ كلية خالف الواقع؛ فإنه كم ذكر لله وحده، وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، وإن عين موضعاً فهو ترجيح بلا مرجح، وإن جعلت القضية مهملة فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة.

فينبغي لمن كان من أهل العلم أن يناقش الكلام بتمحيص، فهنا مجاهد رحمه الله فسر قوله: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) بقوله: لا أُذكر إلا ذكرت معي.

فيفهم منها على إطلاقها أنه لا يمكن أن يذكر الله إلا ويذكر معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لا يوافق الواقع؛ لأن ما أكثر ما يقول المسلم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، دون أن يذكروا معه النبي صلى الله عليه وسلم، وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده.

ثم قال الشهاب: وقد أمعنت فيه النظر حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال: الذكر محمول على الذكر في مجامع العبادة ومشاهدها، فإن ذكره صلى الله عليه وسلم مقرون بذكره في الصلوات وفي الخطب، فلا ترى مشهداً من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك، فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي، بل ولا في وقت من الأوقات المعتد بها فتتجه الكلية.

وعلى هذا التفسير نقبل القاعدة الكلية التي أطلقها مجاهد في تفسير الآية بقوله: لا أُذكر إلا ذكرت معي، يعني: لا أذكر في مجامع العبادة ومشاهدها، كصلاة العيد وصلاة الجمعة.

والتشهد في الصلاة مثلاً، وفي الأذان إلا ذكرت معي.

في الأذان كما قال حسان بن ثابت وهو يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: أغر عليه للنبوة خاتم من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد صلى الله عليه وسلم.

ويقول الإمام الصرصري: لا يصح الأذان في الفرض إلا باسمه العذب في الفم المرضي ويقول أيضاً: ألم تر أنا لا يصح أذاننا ولا فرضنا إن لم نكرره فيهما ويقول الشاعر أيضاً: يا آل بيت رسول الله حبكم من الله فرض في القرآن أنزله يكفيكم من عظيم المجد أنه من لم يصل عليكم فلا صلاة له صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: أنه لا يوجد وقت على الإطلاق إلا ويذكر فيه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأرض كروية، والليل هنا يكون نهاراً في مكان آخر، فتنتقل مسافات الزمن، ونحن الآن ندرك هذه الأمور بما اكتشف من العلوم الحديثة، بحيث لو اتصلت إلى أمريكا في الساعة الثامنة والربع مساءً فإن الوقت عندهم يكون الساعة الواحدة والنصف ظهراً؛ لأن الوقت يترحل باستمرار يقول عز وجل: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5].

يقول: فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى، لا ينفصل عنه في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي، بل ولا في وقت من الأوقات المعتد بها، فتتجه الكلية، أي: قول مجاهد: لا أذكر إلا ذكرت معي.

فإن قلت: من أين لك هذا التخيير؟ فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح؟ قلت: المقام ناطق بهذا القيد، فإن المراد التنويه بذكره صلى الله عليه وسلم وإشاعة قدره، الدال على قربه من ربه، كقرب اسمه من اسمه، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد، وأي إشاعة أقوى من الأذان، لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر.

ثم قال: واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قاله الإمام الشافعي في أول رسالته الجديدة وبينه بالتفصيل، فقال رحمه الله تعالى: قول مجاهد في تفسير الآية: لا أذكر إلا ذكرت معي، أي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.

يعني: ذكره عند الإيمان بالله، والأذان، ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية.

قال السبكي: هذا الاحتمال من الشافعي جيد جداً، وهو مبني على أن المراد بالذكر الذكر بالقلب؛ لأن الفاعل للطاعة أو الكاف عن المعصية امتثالاً لأمر الله تعالى به ذاكر للنبي صلى الله عليه وسلم بقلبه؛ لأنه المبلغ لها عن الله، وهذا أعم من الذكر باللسان؛ فإنه -أي: الذكر باللسان- مقصور على الإسلام عند الدخول في الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحو ذلك.

قال الشافعي: فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت نلنا بها حظاً في دين أو دنيا، أو رفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها.

فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره، حمل الذكر على الذكر القلبي، فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله تذكر من دل على معرفته وهداه إلى طاعته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قيل: فأنت باب الله أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل ولك أن تقول: المراد برفع ذكره عليه الصلاة والسلام تشريفه بمقارنته بذكره في شعائر الدين الظاهرة، وأفضلها كلمتا الشهادة، وهما أساس الدين، ثم الأذان والصلاة والخطب كلها تنحصر في شعائر الدين.

يقول الشيخ عطية سالم: وقد نص القرآن أن الله جعل الوحي ذكراً له ولقومه، فقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:43 - 44].

ومعلوم أن ذكر قومه ذكر له، كما قال الشاعر: وكم أب قد علا بابن ذرى رتب كما علت برسول الله عدنان فتبين أن رفع ذكره صلى الله عليه وسلم، إنما هو عن طريق الوحي، سواء كان بالوقوف على توجيه الخطاب إليه كمثل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، والتصريح باسمه في مقام الرسالة {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، أو كان في فروع التشريع كما في الأذان والإقامة، والتشهد والخطب والصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015