قال الناصر: ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل، وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد.
وهذه قاعدة تكلمنا عنها مراراً: وهي أنه لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الشر هو من خلقه عز وجل، والله يريده كوناً وقدراً، ولكن لا يريده شرعاً وطلباً وإرادة، فمن ثم ينبغي لنا أن ننسب الشر إلى الله، كما في دعاء القنوت: (والخير كله في يديك والشر ليس إليك) فليس في أفعاله شر، بل أفعاله كلها خير محض.
أما الشر في القرآن الكريم فإما أن تأتي نسبته إلى اسم الفاعل مثل قوله: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
أو يؤتى باسم مفعول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7].
أو الفعل المبني للمجهول كما في هذه الآية {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10].
ثم قالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] فنسبوا الخير إلى الله سبحانه وتعالى.
وهناك شواهد من القرآن تبين هذا المعنى، منها قول إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشفِينِ} [الشعراء:77 - 80] فنسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله.
ثم قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] فنسب الخطيئة إلى نفسه، ونسب المغفرة إلى ربه.
كذلك في قصة الخضر في حادثة السفينة، قال الخضر: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فنسب العيب إلى نفسه؛ لأن العيب لا يصلح أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك قال في قتل الغلام: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81].
أما في بناء الجدار الذي هو خير محض لا شر فيه، قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82].
وكذلك في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:1 - 4] فنسب للشيطان، {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6] أي: من الجن والإنس.
وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] أي: من شر الخلق، فالشر ينسب إلى المخلوقين، ولا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى.