قوله: ((قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به)) دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث قطعاً للجن والإنس، ولن أتكلم عن صحة الاستدلال بالآية هنا؛ لأن مجرد الاقتصار على الآية يفيد أنهم تبعوا القرآن فآمنوا به، لكن هل فيها أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث إلى الجن والإنس؟ ليس فيها ذلك، والله تعالى أعلم.
مثلاً: سحرة فرعون ليسوا من بني إسرائيل، وموسى عليه الصلاة والسلام إنما بعث إلى بني إسرائيل، فهل يمنع السحرة من الإيمان بموسى عليه السلام أنه بعث إلى بني إسرائيل فقط؟ لا، هم آمنوا بأن لا إله إلا الله، وأن موسى رسول من عند الله تبارك وتعالى، وإن لم يكن مبعوثاً إلى أناس معينين.
فكذلك هذه الآية لا يؤخذ منها هذا الأمر، وغاية ما يؤخذ منها أن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وصدقوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أما حقيقة المسألة فلا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كما قال في الحديث: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
فأدلة عموم رسالته كثيرة جداً، بل إن الصفة العالمية والشمولية للجن والإنس بالنسبة لبعثة الرسول عليه الصلاة والسلام هي من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بحيث نقول: إن هذه العالمية حكر على دعوة الإسلام، وليس من حق أي ديانة أخرى أن تدعي أنها جاءت ليبشر بها الناس أجمعون.
ونستطيع أن نأتي بكثير من النصوص من كتب النصارى، تؤكد أن المسيح عليه السلام لم يبعث إلا إلى بني إسرائيل فقط، ومن هذه الأقوال: قول المسيح عليه السلام: (إنما بعثت إلى حراب بيت إسرائيل الضالة).
والنصوص في ذلك كثيرة.
أما اليهود فقد كفونا شرهم؛ وذلك باعتبار اليهودية دعوة عنصرية، وعندهم أن الجنة خلقت لليهود فقط، وكل الشعوب إنما خلقت ليركبها اليهود كالحمير كما يزعمون.
فاليهود أصلاً ليس عندهم تبشير ودعوة إلى الدخول في اليهودية، وأهم شيء عندهم حتى ينسب المرء إلى اليهودية أن تكون أمه يهودية.
بل لو أن يهودياً دخل في الإسلام فإنه يبقى على يهوديته ولا يزول عنه وصف اليهودية، وقد انتشر خبر المغنية اليهودية التي قيل إنها أسلمت، والله تعالى أعلم، فلما توفيت قبل سنوات أراد اليهود أن يستولوا على بيتها ويحولوه إلى متحف فقيل لهم: إنها أسلمت، قالوا: حتى ولو أسلمت فهي يهودية، ولا يزول عنها هذا الوصف أبداً، لأن اليهودية دعوة عنصرية وليست رحمة للبشر، ولأنهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار، فمن ثم أراحوا العالم من شر الدعوة إلى دينهم المحرف.
ولأنهم يعتبرون أنفسهم سلالة من نوع خاص يجب أن يعامل معاملة خاصة، قال عز وجل حاكياً قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فبالتالي هم لا يريدون خيراً لأحد، وليس عندهم نشاط تبشيري يدعون به الناس إلى الدخول في دينهم، وإنما عندهم نشاط تدميري لتحطيم الأمم؛ كي يقيموا ملك يهود على أنقاضها، سواء عن طريق نشر الإلحاد أو الفساد الأخلاقي ونحو ذلك.
أما النصارى فليس في دينهم أي نص يدل على عالمية دينهم، بل في كتبهم ما ينفي العالمية، ويثبت أن دينهم خاص ببني إسرائيل كما قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران:49].
ودين النصارى حرف على يد بولس، وهو اليهودي الذي ابتدأ الدعوة إلى التنصير، وذلك أنه ادعى أنه دخل في النصرانية، وكذب على النصارى حيث قال: إنه رأى المسيح وأوحى إليه بأشياء زعمها فصدقوه، ومنها الدعوة والتبشير بالنصرانية، ومن هنا بدأت فكرة التبشير بالنصرانية.
والنصرانية ليس من حقها أن تدعي أنها دعوة عالمية لغير بني إسرائيل؛ لأن العالمية لا تصح على الإطلاق إلا لدين الإسلام، ورسالة سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم، وسبق أنا تكلمنا على هذا بالتفصيل عند دراسة قضية ختم النبوة.
أيضاً من فوائد هذه الآية: أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الفوائد: أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس.
ومنها: أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.
ومنها: أن المؤمن من الجن يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان، وهكذا الإنسان إذا آمن فإن من واجباته المقدسة أن يدعو غيره إلى هذا النور والإيمان، كما فعل الجن، إذ فزعوا إلى قومهم داعين إياهم إلى الله عز وجل، مع أن عمر إيمانهم كان قصيراً.
ومنها: أن الجن لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان تنبهوا إلى الخطأ الذي اعتقده كفرة الجن، من اتخاذ الله صاحبة وولداً، فاستعظموا ذلك ونزهوا الله سبحانه عنه! انظر إلى جوهر الإيمان عندهم، فكل هذا الكلام يدور حول التوحيد بكل معانيه: تنزيه الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله عما لا يليق به قالوا: ((فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً)) وهذا هو معنى: لا إله إلا الله.