ثم نبه تعالى في آخر السورة بما نبه به في فاتحتها من النهي عن موالاة محاربي الدين؛ تحذيراً من التهاون في ذلك، وزيادة اعتناء به، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) هذه الآية الأخيرة من السورة، وفيها الخطاب بالإيمان: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) ويدخل في هذه الآية حاطب بن أبي بلتعة قبل غيره؛ لأن الله قال في أول السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] فالخطاب كان لـ حاطب، وقلنا قبل: إن في ذلك إثباتاً لإيمان حاطب رغم ما أتى به حاطب، والمخاطب هنا أيضاً حاطب وغيره.
((لا تَتَوَلَّوْا)) يعني: لا تناصحوهم، فرجع تعالى بقوله وفضله على حاطب، فكما بدأ الآية بالفضل والإكرام لـ حاطب بوصف الإيمان، كذلك ختمها بوصفه بالإيمان.
((قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: سخط عليهم؛ لمعاداتهم الحق، ومحاربتهم الصلاح، ونشرهم للفساد، وهو عام في كل محارب، ومن المفسرين من خصه باليهود؛ لأنه عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم، واقتصر عليه الزمخشري فقال: إن المقصود بقوله: ((لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) اليهود لعنهم الله.
قال الناصر: قد كان الزمخشري ذكر في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر:12] إلى قوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر:12] إن آخر الآية استطراد، وهو فن من فنون البيان مبوب عليه عند أهله، وآية الممتحنة هذه قد تكون من هذا الفن، فإنه ذم اليهود واستطرد في ذمهم بذم المشركين: ((لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ)).
فذم اليهود أولاً، ثم استطرد من ذمهم إلى ذم المشركين على نوع حسن من النسبة، ولا يمكن أن يوجد للفصحاء في الاستطراد أحسن ولا أمكن منه، ومما صدروا به هذا الفن، قوله: إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه فليس به بأس وإن كان ذو الجرم وقول حسان: إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت من ذا الحارث بن هشام وقوله: ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام فلما بدأ السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] إلى آخر الآيات، أنهى نفس السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] فهي كلها تحيط بالكفار، فهذا كما قلنا: يحتمل أن يكون استطراداً من ذم اليهود إلى ذم المشركين، أو أنه -إذا قلنا إنه في الكفار- من باب رد العجز على الصدر، كما يسمى التصدير، ومنه قوله تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136] فذكر كلمة شركاء أولاً ثم رد العجز على الصدر، ومنه قولهم: القتل أنفى للقتل، فهذا من رد العجز على الصدر، ومنه أيضاً قولهم: الحيلة ترك الحيلة، ومنها قول الشاعر: تسير نجوم الدائرات بحكمه وذاك إذا عدت علاه يسير ومنها أيضاً: لقد حاز أنواع الفضائل كلها وأمسى وحيداً في فنون الفضائل ومنها قوله: سألت صروف الدهر حظ مملك فشحت وجادت لي بحظ أديب يقصد بحظ الأديب الفقر، فإن الأدباء يقولون: إن من حكمة الله سبحانه وتعالى أننا نجد الشخص الأديب العالم فقيراً، ونجد الجاهل المغرق في الجهل غنياً.