قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:5].
((إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، أي: في مخالفة حدوده وفرائضه، وأصله من المحادة بمعنى المعاداة؛ لأن كلاً من المتعاديين في حد غير حد الآخر، فالمحادة تعني المعاداة؛ لأن المعاداة تجعلهما ينفصلان، ويكون كل منهما في حد غير حد الآخر.
((كُبِتُوا))، أي: أخذوا، ((كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ))، يعني: من كفار الأمم الماضية، ((وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ))، أي: دلالات مفصلات وعلامات محكمات تدل على حقائق حدود الله عز وجل، ((وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ))، يعني: للكافرين منكري تلك الآيات وجاحديها عذاب مهين.
وفسر بعض العلماء قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، بمعنى: يختارون حدوداً غير حدودهما، وينشئون شرائع وقوانين من عند أنفسهم ومن تلقائها مخالفة لما شرعه الله تبارك وتعالى.
ففيه وعيد عظيم للملوك والحكام وأمراء السوء الذين وضعوا أموراً خلاف ما حده الشرع وسموا ذلك قانوناً.
يقول الإمام القاسمي رحمه الله تعالى: وقد صنف العارف بالله تعالى الشيخ بهاء الدين قدس الله روحه رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما.
أي: في سياق المساواة بين القانون والشرع، وبيَّن أدلة تكفير من يسوي بين شرع الله عز وجل وشرع من عداه من المخلوقين، فقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا تقبل التكميل، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
وقوله: لأن الدين وفقاً لهذه الآية وصل إلى مرتبة من الكمال لا تقبل التكميل.
يعني: لا يمكن أبداً الزيادة عليه، ولا يمكن أن يوجد فيه نقصان بحيث يجبر باختراع أو ابتداع قوانين ما أنزل الله سبحانه وتعالى بها من سلطان.
ومما يجري على ألسنة الناس اليوم للأسف الشديد الحديث عن المساواة بين القانون والشرع، أو بين القانونيين وغير المنقادين لشرع الله وبين الشرع، فيقال: الشرع والقانون يحكمان بكذا وكذا، على سبيل المقابلة بينهما والاحتجاج بهما على حد سواء.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ولا يخفى أن إطلاق الكفر لمجرد ذلك من غير تفصيل فيه نظر.
وهنا يعقب على ما نقله عن الشيخ بهاء الدين في قوله: بكفر من يقول يعمل بالقانون والشرع، يعني: إذا قابل بينهما، فيشير القاسمي رحمه الله تعالى إلى وجوب الاحتياط في مثل هذه العبارة، فيقول: ولا يخفى أن إطلاق الكفر لمجرد ذلك من غير تفصيل فيه نظر.
أي: لابد أن يستفصل عن حال قائل هذه الكلمة ماذا يقصد بها؟ وما السياق الذي وردت فيه؟ يقول: لأنه من تنطع الغالين من الفقهاء الذين زيف أقوالهم في التكفير كثير من العلماء النحارير، فإن التكفير ليس بالأمر اليسير.
والحق في ذلك أن القانون الذي يهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل ويفسدها وينسخها كفر وضلال.
مثلاً من يصدر قانوناً بمساواة الرجل بالمرأة في ميراثها، هذا لا يحتمل التأويل؛ لقول الله تبارك وتعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، مع العلم بأن هناك حالات تتساوى فيها المرأة مع الرجل، وهناك حالات يفوق فيها نصيب المرأة نصيب الرجل، لكن القاعدة والأساس: أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
فمن أبطل هذه الشريعة كما حصل في الصومال من سياد بري الملحد المارق فهذا بلا شك كفر وردة وخروج عن دين الإسلام؛ لأنه محادة لشرع لله عز وجل الواضح البين الذي لا يحتمل التأويل، والله تعالى أعلم.
ولعلكم تذكرون أنه لما حصل ذلك فإن العلماء جزاهم الله خيراً قاموا ضد هذا الملحد المارق وأنكروا عليه هذا الخروج من الدين، فجمع العلماء وأحرقهم في الميادين العامة وهم أحياء، ولعل ما وقع في الصومال من العبر التي هي ممتدة إلى اليوم من الانشقاق والحروب والدمار والمجاعات؛ لعله من شؤم هذا الموقف، ومن شؤم هذه السياسة الظالمة الضالة! ولا يبعد أن يكون ذلك من شؤم هذه المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومثله أيضاً: القانون الذي صدر في تونس يحرم تعدد الزوجات، في حين أنه يبيح تعدد الخليلات، فهذا القانون حرم تعدد الزوجات مع أن هذا حلال في كتاب الله تبارك وتعالى.
فوقعت قضية لرجل تزوج امرأتين فدافع عنه محاميه بأن هذه الثانية خليلة ومعشوقة له وليست زوجة، فحينئذٍ لم يعاقب؛ لكن لو كانت زوجة فإنه يعاقب طبقاً لهذه القوانين، فكذلك أمثال هذه القوانين الصارخة في مصادمتها لشرع الله تبارك وتعالى، والتي تهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل وتفسدها وتمسحها، فهذا بلا شك كفر وضلال لا يقول به ولا يعول عليه إلا المارقون الجاحدون؛ فمن زعم أن القوانين أفضل من الشرع فهذا كافر كفراً أكبر لا خلاف فيه، ومن زعم أن القوانين الوضعية تحقق العدل بين الناس أكثر من الشرع فهذا لا شك في كفره، ومن ساوى بين الشرع الإسلامي وبين ما خالفه من القوانين الوضعية، فهذا أيضاً لا شك في كفره.
أما من حكم بغير شرع الله تبارك وتعالى في بعض المسائل، كمن اتبع الهوى، بمعنى أنه يرفع راية الشريعة؛ لكنه خالف شرع الله بسبب رشوة أو لمحسوبية أو لغير ذلك من المعاني، فهذا يطلق عليه كفر, ولكنه كفر دون كفر؛ لأن هذا كفر عملي وليس كفراً اعتقادياً، يعني: هو يعتقد وجوب تحكيم شرع الله, ويرفع راية الشريعة, وتحكيم شرع الله، ثم هو في بعض المسائل يحكم بما يخالف شرع الله لهوى أو لرشوة أو لمحسوبية أو نحو ذلك، فهذه معصية، وهذا هو الذي روي فيه عن بعض السلف أنه كفر دون كفر، وليس الكفر الذي يذهبون إليه، على تفصيل في المسألة.
يقول: والحق في ذلك أن القانون الذي يهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل ويفسدها وينسخها؛ فإنه كفر وضلال لا يقول به ولا يعول عليه إلا المارقون الجاحدون.
أما غير المنصوص عليه، أعني: ما لم يأتِ فيه آيات محكمة أو خبر متواتر أو إجماع، والمسائل الاجتهادية المدونة؛ فمخالفتها إلى قانون عادل لا يعد ضلالاً ولا كفراً.
فهو يبين هنا الأشياء التي قد تنسب إلى الشرع وهي ليست من الشرع، كاجتهادات بعض الفقهاء، وهي اجتهادات قد تكون مرجوحة.
فالعدول عن الاجتهاد المرجوح الذي لا يؤيده الدليل إلى قاعدة عدلية تتواءم مع قواعد الشرع في مراعاة العدل والإنصاف بين الناس ليس فيه مخالفة للشرع؛ لأن الشرع الذي نتكلم عنه هو الشرع الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأحكم الأمر فيه، وبين بياناً رفع كل لبس، وليس الشرع ما تخالف فيه الفقهاء، وكان مأخذه من الاجتهاد والرأي؛ فإن ذلك لا عصمة فيه من الخطأ بلغ رائيه من المكانة ما بلغ.
وكثيراً ما تتشابه فروع الفقهاء مع مواد القانون، ولذا ألف بعض المتأخرين كتاباً في مطابقة المواد النظامية للفروع الفقهية؛ لأن مورد الجميع واحد وهو الرأي والاجتهاد، ورعاية المصلحة.
فأيضاً لابد أن ننتبه إلى أن هناك قوانين لا بأس بالعمل بها، وهي القوانين التي تصطبغ بالصبغة الإدارية، أي القوانين واللوائح التي تنظم أحوال الناس من الناحية الإدارية، فهذه ليست داخلة في القانون الذي يذم العمل به، فإن هناك فرقاً بين الأحكام والحدود الشرعية وبين القوانين الإدارية، فإن القوانين الإدارية غالباً ما تدور مع مقاصد الشريعة في رعاية المصالح ودفع المفاسد، وتنظيم أمور العمل ونحو ذلك، فهذه لا تدخل فيما نحن بصدده.
ولـ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رسالة في هذا المعنى وهي: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية.
ولتلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كتاباً في نفس الموضوع، لكنه أوسع وأجمع وهو: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، أو يسمى أيضاً: الفراسة المرضية في السياسة الشرعية.