يقول ابن القيم: ثم ذكر تعالى الأشقياء، وهم نوعان: كفار ومنافقون، فقال: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا))، هؤلاء هم الكفار.
وقد ذكر المنافقين في قوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} [الحديد:13]، فهؤلاء هم أصناف العالم كلهم.
يقول: وترك سبحانه ذكر المخلط صاحب الشائبتين، على طريق القرآن في ذكر السعداء والأشقياء دون المخلطين غالباً؛ لسر اقتضته حكمته تبارك وتعالى، فليحذر صاحب التخليط؛ فإنه لا ضمان له على الله.
وإذا تأملنا القرآن نجد أنه دائماً يذكر السعداء والأشقياء، والمؤمنين والكفار، والمؤمنين والمنافقين، وهكذا.
أما المخلطون فإن القرآن الكريم يترك ذكرهم غالباً، كما يقول ابن القيم: لسر اقتضته حكمة الله تبارك وتعالى، وهذا السر يحاول أن يبينه بقوله: فليحذر صاحب التخليط؛ فإنه لا ضمان له على الله.
بخلاف المؤمن، والصديق، والشهيد، والصالح، أي: الذي لا يخلط، فالنصوص واضحة تماماً في أن له ضماناً عند الله سبحانه وتعالى بأنه يثيبه على ذلك.
يقول: فليحذر صاحب التخليط؛ فإنه لا ضمان له على الله، ولا هو من أهل وعده المطلق، ولا ييأس من روح الله؛ فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار واقف بين الوعد والوعيد؛ كل منهما يدعوه إلى موجبه؛ لأنه أتى بسببه.
أي: أنه أتى بموجب الوعد؛ لأنه وحد الله سبحانه وتعالى، وأتى بموجب الوعيد؛ لأنه عصى الله، فهو بين الوعد والوعيد لا ضمان له في أي الفريقين يلحق.
وهذا هو الذي لحظه المعتزلة القائلون بالمنزلة بين المنزلتين.
فالمعتزلة قالوا: إن الفاسق الملي -يعني: العاصي- في منزلة بين المنزلتين.
وهم خالفوا الخوارج، فالخوارج قالوا: إن العاصي كافر.
والفرق بينهم أن المعتزلة يقولون: نحن لا نقول: مؤمن ولا كافر، لكنه في منزلة بين المنزلتين.
لكن في الآخرة كلاهما متفق على الاعتقاد بأنه يخلد ولا يكون إلا في جهنم مع الكفار.
ونفس الفكرة كان يقول بها جماعة التوقف، فعندهم أن الإنسان مسلم مؤمن، أو كافر، أو متوقف فيه، فهم أعادوا من جديد صيحة: المنزلة بين المنزلتين، إلا أن ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: إن كلمة: المنزلة بين المنزلتين يمكن أن نستعملها في حق المخلط الذي يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، لكنهم غلطوا في تخليده في النار.
ولو نزلوه منزلة بين المنزلتين، ووكلوه إلى المشيئة لأصابوا.
قال القاسمي: انتهى كلام ابن القيم، وفيه موافقة لما اختاره ابن جرير رحمه الله تعالى في الآية.
يعني: أنهم نزلوه في منزلة بين المنزلتين، كما عبر عنها علماء العقيدة كالإمام الطحاوي في قوله: إننا نرجو للمحسن من المؤمنين، ونخاف على المسيء، ولا نقطع لمسلم بجنة ولا نقطع لمسيء بالنار.
فهذا معنى المنزلة بين المنزلتين فيما يتعلق بالآخرة، أما في دار الدنيا: فما دام يؤمن بالإسلام فله أحكام الإسلام الظاهرة، كما بينا ذلك.
ولما ذكر تعالى السعداء ومآلهم عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم بقوله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)).