يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64] * {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:63 - 65].
يقول: تضمنت هذه الآيات الكريمة برهاناً قاطعاً ثانياً على البعث وامتناناً عظيماً على الخلق بخلق أرزاقهم لهم، فقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} يعني: أفرأيتم البذر الذي تجعلونه في الأرض بعد حرثها.
(أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أأنتم تجعلونه زرعاً ثم تنمونه إلى أن يصير مدركاً صالحاً للأكل.
(أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) له.
وهذا المعنى لا يتفطن إليه إلا الإنسان المؤمن العاقل، لكن الكافر يعمى عن رؤية قدرة الله على إنبات هذه البذرة، فنحن -البشر- ما علينا غير الأخذ بالأسباب، لكن هل الأسباب حتماً تؤدي إلى النتائج؟! إن القوة التي تنمي وتنبت هي قوة الله سبحانه وتعالى، فنحن إنما نأخذ بالأسباب، نوجد الماء والبذرة، ونحرث الأرض، ونسقي الزرع، لكن من الذي ينبت؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
ولا شك في أن الجواب الذي لا جواب غيره هو أن يقال: أنت -يا ربنا- الزارع المنبت، ونحن لا قدرة لنا على ذلك، فيقال لهم: كل عاقل يعلم أن من أنبت هذا السنبل في هذا البذر الذي تعفن في باطن الأرض قادر على أن يبعثكم بعد موتكم.
وكون إنبات النبات بعد عدمه من براهين البعث قد جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] وقال تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50] ورحمة الله هي المطر؛ لأن المطر أحياناً يسمى رحمة، كما قال تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل:63] وهي المطر.
وانظر إلى قوله تعالى: ((آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ)) فكلما ترى زرعاً أو نباتاً أو شجرة فقل: هذا هو أثر رحمة الله، لقوله: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50].
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:57].
إذاً: الفائدة من الزرع والنبات ليس الأكل أو رؤية مناظر الجنات الجميلة فحسب، وإنما هناك غاية أساسية من خلقها، وهي أنها تدلنا على قدرة الله على البعث والنشور، كما أحيا هذه الأرض بعد موتها.
ثم يقول الشيخ الشنقيطي أيضاً: اعلم أنه يجب على كل إنسان أن ينظر في هذا البرهان الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة؛ لأن الله جل وعلا وجه في كتابه صيغة أمر صريحة عامة في كل من يصدق عليه مسمى الإنسان بالنظر في هذا البرهان العظيم المتضمن للامتنان لأعظم النعم على الخلق، وللدلالة على عظم الله وقدرته على البعث وغيره، وشدة حاجة خلقه إليه مع غناه عنهم، كما في قول الله تبارك وتعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:24 - 33].