يختم القاسمي رحمه الله تعالى تفسيره لسورة الرحمن بهذه الفائدة يقول فيما قاله الأئمة في سر تكرير: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)): قال السيوطي في الإتقان في بحث التكرير: قد يكون التكرير غير تأكيد صناعة وإن كان مفيداً للتأكيد معنى.
يعني: التكرار أو التكرير يستعمل للتوكيد: يا علقمه يا علقمه يا علقمه خير تميم كلها وأكرمه فحينما تكرر شيئاً فأنت تريد التوكيد، لكن أحياناً يراد به شيء غير التأكيد، وإنما وقع فيه الفصل بين المكررين, فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده.
ثم قال: وجعل منه قوله تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) فإنها وإن تكررت نيفاً وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها، ولذلك زادت على ثلاثة، ولو كان الجميع عائداً إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة؛ لأن التأكيد لا يزيد عليها, قاله ابن عبد السلام وغيره.
وفي عروس الأفراح: فإن قلت: إذا كان المراد بكل ما قبله, يعني قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) مثلاً بعد قوله: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) يعني: آلاء ربكم المذكورة في هذه الآية بذاتها قبل, فليس ذلك بأسماء بل هي ألفاظ فكل واحد أريد به غير ما أريد به الآخر, الألفاظ هي: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) لكن المقصود بالآلاء هنا غير المقصود بها هناك، وهذا يدعم كلامنا من قبل أن هذا تأكيد بمعنى الجديد.
فإن قلت: يلزم التأكيد, قلت: والأمر كذلك ولا يبدو عليه؛ لأن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة، أما إذا ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع، وقال العز بن عبد السلام في كتابه (الإشارة إلى الإيجاز): وأما قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهن ما وقع بينها وبين التي قبلها من نعمة، ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها من النعم، وبالثانية ما تقدمها، وبالثالثة ما تقدم على الأولى، وبالرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة وهكذا إلى آخر السورة فإن قيل كيف يكون قوله: ((سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ)) وقوله: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ))، وقوله: ((هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ)) [الرحمن:43 - 44] وقوله: ((يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ))، كيف يكون ذلك نعمة؟ قلنا: هذه كلها نعم جسام, كأن الله هدد العباد بها استصلاحاً لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى حينما أنزل في الدنيا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الآيات في وصف النار وعذاب النار وهذه الأهوال إنما هي لإصلاح الناس، ولحثهم على الطاعة والاستقامة، فالترهيب نعمة من حيث إنه زاجر عن المحرمات ودافع إلى الاستقامة على شرع الله تبارك وتعالى.
إذاً: هذه كلها نعم جسام؛ لأن الله هدد العباد بها استصلاحاً لهم ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان إلى حيز الطاعة والإيمان والانقياد والإذعان, فإن من حذر من طريق الردى وبين ما فيها من الأذى وحث على طريق السلامة الموصلة إلى المثوبة والكرامة كان منعماً غاية الإنعام ومحسناً غاية الإحسان، ومثل ذلك قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس:52] يعني: هذا فيه مناسبة الربط لذكر صفة الرحمة في ذلك المقام، يعني: نفس المناسبة في ذكر ما يقع من العذاب والأهوال، فلا يستغرب أنه وعد بالعذاب وبيان عذاب المشركين وفي نفس الوقت يوصل إلى الرحمن.
أما قوله: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)) ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) فأين النعمة في هذا الخبر؟ نقول: هذا تذكير بالموت والفناء، وفيه ترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء، وفي الإعراض عن دار الفناء.
وقال البغوي: كررت هذه الآية في واحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة وتأكيداً للتذكير بها، ثم عدد على الخلق آلاءه، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه ليفهمهم النعم ويقررهم بها، كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها, فيقول له: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعزرتك؟ أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب.
وقال في الدرر والغرر: التكرار في سورة الرحمن إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكرير كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحصل فيه التكرير, وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، كقول مهلهل يرثي كليباً: على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما ضيم جيران المجير على أن ليس عدلاً من كليب إذا رجف العظاة من الدبور على أن ليس عدلاً من كليب إذا خرجت مخبأة الخدور على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلاً من كليب إذا حيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلاً من كليب غداة تأثل الأمر الكبير على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما خار جأش المستجير ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط وهي من نصائح العرب.
وقال شيخ الإسلام في متشابه القرآن: ذكرت هذه الآية ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) إحدى وثلاثين مرة, ثمانية منها ذكرت عشر آيات فيها تعداد عجائب الخلق لله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعاده, ثم تبعت منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم.
يعني: الآيات التي فيها ذكر النار ذكرت فيها آية: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) سبع مرات بعدد أبواب جهنم.
وحسن ذكر الآلاء عقبها لأن من جملة الآلاء رفع البلاء وتأجيل العقاب.
يعني: رغم أنها آية عذاب لكن يحسن أن يأتي بعدها ذكر الآلاء والامتنان بالآلاء؛ لأن من جملة الآلاء أن هذا البلاء الآن غير واقع بكم، والعقاب لا ينزل بكم حالاً وإنما هو مؤجل إلى أجل يعلمه الله سبحانه وتعالى, ففيه أيضاً نفس هذا المعنى الذي أشرنا إليه من قبل.
وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما.
يعني: في الجنتين الأوليين ذكرت ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) ثمان مرات في وصف الجنتين ونعيمهما، وثمانية هو عدد أبواب الجنة, وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين, أخذاً من قوله: ((وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ))، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة.