قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} يعني: الموضع الذي يحل فيه نحر الهدي، والمقصود به موضع الإحصار، وهذا أقرب إلى يسر الإسلام من أن يقال: إن المحل هو أن يواعد رجلاً في الحرم ليذبحه له في موعد معين، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما حصره وأصحابه كفار قريش عن الدخول في الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم بالحديبية، ولم يبعثوا بالهدي إلى الحرم.
قوله تعالى: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) يقول السيوطي: أدوهما بحقوقهما.
وهناك أقوال كثيرة في تفسيرها: القول الأول: (الإتمام) المقصود به: الأمر بالأداء كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] يعني: أداهن، ومنه أيضاً قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187].
القول الثاني في تفسير (وأتموا) يعني: إتمامهما بعد الشروع فيهما، فمن أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه، ولا يفسخه.
القول الثالث: إتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وهذا قول علي رضي الله تعالى عنه وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تفرد كل واحد منهما بسفره، يعني: اجعل سفرة واحدة للحج، وسفرة واحدة للعمرة، وهذا دليل لمن فضل الإفراد على التمتع والقران، فإنهم استدلوا بهذا التفسير فقالوا: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) يعني: أن تحرم بهما من دويرة أهلك، يعني: تنشئ سفراً مستقلاً لكل نسك، وقالوا: إن التمتع فيه جمع نسكين في سفر واحد، وذهبوا إلى أنه يجب على المتمتع الذبح ليجبر النقص في عبادته؛ لأنه لم يسافر لكل نسك، بل أدى الحج والعمرة في سفرة واحدة، فإنه يؤدي العمرة في أشهر الحج ثم يبقى في مكة متمتعاً حتى يوم التروية، فيهل بالحج، ففي سفرة واحدة أدى العمرة والحج وتمتع ووفر على نفسه مشقة سفر ثان، قالوا: يجب عليه الدم في حالة التمتع حتى يجبر هذا النقص الذي نشأ عن عدم سفرة أخرى، وموضوع المفاضلة بين أنواع الحج بحث طويل، وليس هو مقصود كلامنا الآن.
القول الرابع في معنى قوله تعالى: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)): قال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما، لا لتجارة ولا لغير ذلك، يعني: أن تجرد النية لإرادة الحج والعمرة، وهذا لا يعني تحريم التجارة في الحج أو زيارة الأقارب أو صلة رحم أو غير ذلك، لكن قال: إتمامهما أن تكون قاصداً الحج أو العمرة فقط.
القول الخامس: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) يعني: أدوهما كاملتين ظاهراً وباطناً.
يقول السيوطي: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) أدوهما بحقوقهما، (فإن أحصرتم) أي: منعتم عن إتمامهما بعدو (فما استيسر) يعني: ما تيسر (من الهدي) عليكم، يعني: عليكم أن تذبحوا ما تيسر أو تهدوا ما تيسر، وأقل ما يجزئ شيء شاة.
{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أي: لا تتحللوا حتى يبلغ الهدي المذكور محله، يعني: حيث يحل ذبحه، وهو مكان الإحصار، بدلالة فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصر في الحديبية نحر في نفس الموضع، فيذبح المحصر في موضع الإحصار بنية التحلل، ويفرق اللحم على مساكين ذلك الموضع، ثم يحلق، وبه يحصل التحلل.