عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: (بينما نحن قائلون -والقيلولة: هي الاستراحة وسط النهار- إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! البيعة البيعة، نزل روح القدس، قال: فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قول الله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)) فبايع لـ عثمان بإحدى يديه على الأخرى -لأن عثمان جاء الخبر أنه قتل فبايع نيابة عن عثمان بإحدى يديه على الأخرى-، فقال الناس: هنيئاً لـ ابن عفان يطوف بالبيت ونحن هاهنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف).
قال القاسمي: وقد أجمع الرواة في الصحاح على أن الشجرة لم تعلم بعد، ففي الصحيحين من حديث أبي عوانة عن طارق عن سعيد بن المسيب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فانطلقنا من قابل حاجين، فخفي علينا مكانها، وإن كان بينت لكم فأنتم أعلم.
وفيهما أيضاً عن سفيان أنه قال: إنهم اختلفوا في موضعها.
وروى ابن جرير عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: كان جدي يقال له: حزن، وكان ممن بايع تحت الشجرة، قال: فأتيناها من قابل فعميت علينا.
يعني: لم يستطيعوا أن يهتدوا لمكانها.
ثم قال ابن جرير: وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هنا، وبعضهم يقول: هاهنا، فلما كثر اختلافهم قال: سيروا؛ هذا التكلف.
أي: هذا مما لا يعنيكم ولا يفيدكم، فذهبت الشجرة وكانت سمرة إما ذهب بها سيل وإما شيء سوى ذلك.
انتهى كلام ابن جرير.
وقال الحافظ في الفتح: روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة فيصلون عندها فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت، وهذا صححه الحافظ ابن حجر عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة فيصلون عندها؛ فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت، ولا ينافي ما تقدم لاحتمال أن هؤلاء علموا مكانها أو توهموها فاتخذوها مسجداً ومكاناً مقدساً فقطعها عمر عندئذ؛ صوناً لعقيدتهم من الشرك؛ لأن دوام العبادة حولها يفضي إلى عبادتها بعد، كما أفضى نصب الأوثان إلى عبادتها، وكان أول أمرها لتعظيم مسمياتها وإجلال أمثال أصحابها.
وقال في الفتح أيضاً في شرح حديث ابن عمر: وقوله: رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله.
يعني: اختلف الصحابة اختلافاً شديداً في مكان الشجرة، فيقول: كانت رحمة من الله أنها عميت، وما كاد اثنان من الصحابة يتفقان على مكانها.
يقول: وقد وافق المسيب بن حزن والد سعيد ما قاله ابن عمر من خفاء الشجرة، والحكمة في ذلك ألا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهداً في ما هو دونها.
وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: كانت رحمة من الله.
أي: كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تبارك وتعالى، فإذا كان هذا فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذه الشجرة التي ذكرت في القرآن: ((إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))، ومع ذلك الصحابة سدوا ذرائع الافتتان، فأولى ثم أولى ما يفترى ويزعم الآن من وجود آثار للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه موجود فيما يسمونه كذباً وزوراً وافتراء على الله الحرم الأحمدي، وحرم إبراهيم الدسوقي وأحمد البدوي، يزعمون أنه موجود في أحد الأماكن هناك! وهذا من الكذب على الله أن يدعى أي مكان في الأرض سوى مكة والمدينة حرماً، لا يوجد إلا حرمان فقط، حتى المسجد الأقصى لا يسمى حرماً، وسبق أن درسنا في دروس الفقه ما معنى كلمة (حرم)، فليست كلمة تطلق هكذا بالطريقة التي نستعملها الآن: الحرم الجامعي، وحرم السكة الحديد، وحرم كذا فهذا لا يجوز، فضلاً عن الحرم الإبراهيمي والحرم الدسوقي إلى آخره، وهذه الأماكن توجد في بعضها أثر يزعمون أنه أثره صلى الله عليه وسلم، أو أن قدمه مطبوع على حجر، وهذا كله كذب وزور، وحتى جدلاً لو كان ذلك لكان أولى أن يفعل به ما فعل مع هذه الشجرة، فيطمس حتى لا يحصل به هذا الافتتان، حيث يتمسحون بها ويفعلون هذه الأشياء.
فهذا يشير إلى قاعدة مهمة جداً في حماية جناب التوحيد، وهي قاعدة: سد ذرائع الشرك والفتنة، وهي من القواعد المهمة جداً، والتي يؤسس عليها المنهج السلفي، فالمنهج السلفي له أصول، والأصول يرجع إليها لبناء قواعد هذا المنهج: القرآن، السنة، إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومنها أيضاً: قاعدة سد الذرائع، فهي من أصول المنهج السلفي التي امتاز بها هذا المنهج، وقد ناقشنا من قبل بالتفصيل عند مدارسة كتاب: دعوة التوحيد للدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى فصلاً مهماً جداً، وكنا أوصينا الإخوة بحفظه ومذاكرته جيداً، وعنوانه: احتياطات الشريعة لحماية توحيد الألوهية، ومع أن الفصل في صفحات قليلة جداً لكنه في غاية الأهمية.
ومن الاحتياطات التي اتخذتها الشريعة لحماية توحيد الألوهية حتى لا يشرك الناس بالله: 1 - تحريم التصوير والتماثيل؛ لأنها تكون ذريعة للافتتان بأصحابها.
2 - النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة.
3 - تحريم الذبح في مكان كان فيه عيد من أعياد الجاهلية أو كان فيه صنم يذبح له.
5 - تحريم بناء المساجد على القبور.
6 - تحريم الغلو في الصالحين؛ لأنه يفضي إلى الشرك، وحتى الغلو في مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا كان فصلاً في غاية الأهمية، وما زلنا نوصي الإخوة بهذا الكتاب، كتاب: دعوة التوحيد للدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى، فمن هذه الاحتياطات هذا المسلك الذي فعله الصحابة مع هذه الشجرة، وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية.
لأن من لم يعرف الجاهلية يسهل عليه أن يتورط في شيء من أفعال الجاهلية؛ لأنه لا يعرف أفعال الجاهلية، لكن من رأى ضلال الجاهلية ونور الإسلام أمكنه أن يميز بينهما، فمن ثم كثير من الناس يزعمون أنهم على الإسلام الصحيح أو على الفهم الصحيح للإسلام، بينما هم واقعون في بعض الشركيات كدعاء الموتى من دون الله، والاستغاثة بهم، والطواف بقبورهم وغير ذلك من هذه الشركيات؛ لأنهم ما عرفوا الجاهلية، ولو عرفوا الجاهلية لأدركوا أن هذه من خصال أهل الجاهلية، ومن أفعال أهل الجاهلية، ولذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى له رسالة مهمة جداً في هذا الباب، اسمها: (مسائل الجاهلية) فهذا كتاب ينبغي أن يكون مشهوراً، عدد فيه خصائص الجاهلية التي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطهر المسلمين منها، وقد شرح هذا الكتاب العلامة محمود شكري الألوسي رحمه الله تعالى.
ونحن معشر المصريين عموماً نميل جداً إلى الغلو في هذه الأشياء، فالخبر يخرج شبراً ويعود ذراعاً، ونضع عليه التوابل والبهارات حتى نثير إعجاب الناس بما ننقله من حكايات، وأي موضوع يتداول فغالباً إذا تتبعت سلسلة الخبر تنتهي بك إلى مجاهيل أو إلى مجروحين أو إلى آخره، فنحن نعاني من آفة النقل.
وما آفة الأخبار إلا رواتها فما بالك بمجتمع العوام الذين لا يعرفون شيئاً عن وجوب التحري؟! فالأمية عندهم هي التي تدفعهم إلى المغالاة والغلو وزيادة الثقة، وهذه الأخبار غالباً مفتراة، ونحن نعرف طبيعة بني جلدتنا، عندنا ميل إلى الغلو في هذه الأشياء، وربما يكون هذا الغلو بسبب ما يحصل من الإيحاء النفسي أن توجد حالة نفسية تعالج بالإيحاء، فينبغي أن نحترم عقولنا، ونحن لا نقول: إن هذا غير ممكن في حكم العقل، يعني: خرق العادة شيء ممكن خاصة لأولياء الله الصالحين، فلذلك نحن نقول: خرق العادة في حد ذاته لا ينبغي أن يفتننا أبداً، ولا يهزنا ولا يؤثر فينا إلا بشروط، وأوضح دليل حتى نسكت الجميع قضية المسيح الدجال؛ لأن كثيراً من الناس لاسيما النصارى الشيطان يلبس عليهم جداً في هذا الباب، تكلمهم في التوحيد والدخول في الإسلام، فيقول لك: عندي دليل على أن ديني دين صحيح، فهذه المعجزات التي حصلت لي أو التي رأيتها بعيني تدل على ذلك، فالشيطان يلبس عليهم بهذه الأشياء، وخرق العادة لا يدل على أن الذي جرى على يديه خرق العادة هو رجل صالح أبداً، بدليل الدجال الأعور الذي يأتي بأشياء تدهش العقول حتى يفتن الناس به ويعبدونه من دون الله، فـ المسيح الدجال كل اليهود والنصارى يتهيئون لاستقباله، فالنصارى يزعمون عودة المسيح للمرة الثانية على أنه -والعياذ بالله- إله، واليهود يزعمون أن المسيح الذي بشروا به لم يأت، والذي أتى كان هو المسيح الدجال.
فالشاهد من هذا: أن المسيح الدجال الذي سوف يدعي الألوهية هو نفسه سيأتي بخوارق، ومع ذلك هو الدجال، فمجرد خرق العادة لا يكفي، وإنما ينبغي أن ننظر في الخارقة نفسها هل هي موافقة للشرع أم مخالفة؟ ننظر في سلوك الشخص صاحب خرق العادة هل هو متبع للسنة موحد مسلم ومتبع للسنة والجماعة أم هو من أهل البدع والضلالة؛ لأن الشيطان يمكن أن يعينه على إنجاز هذه الخوارق بقدرة الله سبحانه وتعالى وحكمه الكوني القدري؛ فتنة واختباراً وابتلاء للناس كما سيحصل مع الدجال، فالخو