قوله: (فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا) أي: إن شاءوا أن يدخلوا في الإسلام فعلوا (وإلا فقد جموا) أي: إن أصروا على قتالي يكونون قد استراحوا واستردوا قوتهم، ويستطيعون القتال بعد ذلك، (وإن هم أبوا) أي: فإن هم أبوا هذه العروض كلها، (فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) قوله: (حتى تنفرد سالفتي) هي صفحة العنق، وكنى بذلك عن القتل؛ لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه، وقال الداودي: المراد بقوله: (حتى تنفرد سالفتي) الموت أي: لأقاتلنهم حتى أموت وأبقى منفرداً في قبري، ويحتمل أن يكون أراد أن يقاتل حتى ينفرد وحده في مقاتلتهم، يعني: أقاتلهم حتى لو لم يبق أحد يقاتلهم غيري، فسوف أقاتلهم ولو كنت وحيداً، وقال ابن المنير: لعله صلى الله عليه وسلم نبه بالأدنى على الأعلى أي: أن لي من القوة بالله والحول به ما يقتضي أن أقاتل عن دينه ولو انفردت وكنت وحيداً منفرداً ليس معي أصحاب ولا أنصار، فكيف لا أقاتل في سبيل إعزاز الدين مع وجود المسلمين، وكثرتهم، ونفاذ بصائرهم في نصرة دين الله تعالى؟ يعني: لو كنت وحدي فإني سأقاتلهم فما بالكم لو لم أكن وحدي ومعي أتباع وأنصار سوف يبذلون أرواحهم في سبيل الله عز وجل.
(وليمكنن الله أمره) أي: ليمضين الله أمره في نصرة دينه، نلاحظ هنا الجزم بعد التردد في العبارة الأولى، (فإن أظهر فإن شاءوا دخلوا فيما دخل فيه الناس) إلى آخره، فذكره بصورة التردد للحكمة التي أشرنا إليها، أما في هذه الحالة فقال عليه الصلاة والسلام: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده) انظروا إلى الجزم والقطع (لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) يعني: لينصرن الله دينه يقول الحافظ: وحسن الإتيان بهذا الجزم بعد ذلك التردد للتنبيه على أنه لم يورده إلا على سبيل الفرض يعني: أن التردد الذي وقع أولاً ما كان إلا على سبيل الفرض، أما اعتقاده الحقيقي فهو جازم بأن الله سوف ينفذ أمره، وينصر دينه عز وجل.
أضف إلى هذا أن النبي عليه السلام في أثناء هذه المفاوضات أرسل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى مكة برسالة إلى المستضعفين من المؤمنين داخل مكة، فأرسله يبشرهم بفتح الله وبنصر الإسلام، فهذا معناه أن الله أخبره أنه سوف يعز الإسلام وينصره ويفتح عليه، فهذا ينضم إلى قوله: (ولينفذن الله أمره) يعني: أنه كان جازماً من تحقق وعد الله بنصره، وأن هذا التردد كان على سبيل التنزل ومجرد الافتراض فقط في أول الأمر.
وفي هذا الفصل الندب إلى صلة الرحم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نوى وعزم على أن يجيبهم إلى أي خطة فيها تعظيم لحرمات الله التي منها صلة الرحم، والإبقاء على من كان من أهلها، وبذل النصيحة للقرابة.
وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من القوة والثبات في تنفيذ حكم الله وتبليغ أمره، ولا شك أن هذا التعبير يستحق أن يكون درساً مستقلاً تستخرج منه العبر، وهو قول النبي عليه السلام: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) وهذه الجملة أقوى بكثير -والله تعالى أعلم- مما يروى أنه قال في الحديث الضعيف: (يا عم! والله! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) فالتعبير هنا أقوى، وهذا الحديث في صحيح البخاري، وهو قوله: (والذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول) يعني: أذن له في الذهاب ليبلغهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.