ومن شفقته عليه صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2]، ويقول جل وعلا: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].
فالله سبحانه وتعالى يقول له هنا: هون عليك! هل أنت مهلك نفسك حسرة وحزناً على هؤلاء الكافرين الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله؟! فالله سبحانه وتعالى يواسيه ويعزيه بأن الهداية هي هداية الله عز وجل، ويقول له: لا تهلك نفسك، أنا ما أنزلت عليك القرآن لتشقى وتتعذب هذا العذاب؛ حسرة على هؤلاء المعرضين عن الحق، وشفقة وخوفاً عليهم من عذاب جهنم، فكان عليه السلام يتألم أشد الألم لإعراض قومه عنه؛ خوفاً عليهم أن يعذبوا ويهلكوا، وهذا صرح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، فأخذ يذبهن عن النار، يقول صلى الله عليه وسلم: وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنت تفلتون من يدي، تقحمون فيها)، وفي بعض الروايات: (فتغلبوني تتقحمون فيها) أو كما قال عليه الصلاة والسلام تصور كيف هو رحمة للعالمين! وكيف هو رحمة لجميع أمته عليه الصلاة والسلام! فيقول: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً) في ظلمة، فمعلوم أن الفراش لعدم وجود عقل له ينجذب إلى هذا الضوء ولا يدرك أن في انجذابه للضوء إحراقه وهلاكه، وجعل هذا الرجل الذي أضاء هذه النيران يذب الفراش: يطرده حتى لا يحترق، فالفراش يهرب منه ويصر على أن يلقي بنفسه في النار، فيكون هذا نفس مثلي ومثلكم، يقول: أنا واقف على النار وأنتم تنجذبون إليها بالشهوات والشبهات، وأنا أذبكم وأدفعكم وأطردكم حتى لا تهلكوا، وهذا يقصد به أمة الدعوة كلها مسلمين وكفاراً جميعاً، فيقول: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار)، يحاول أن يمسك هذا من ذيله، وهذا من كمه، وهذا من وسطه، وهم أناس كثير وهو واقف يريد أن يذب الذي يريد أن يلقي بنفسه في النار، (وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي) أي: تغلبوني وتدفعوني، وتلقون بأنفسكم في النار إصراراً على الهلاك، وهذا هو حال النبي عليه السلام مع الكفار والمعرضين عن هديه صلى الله عليه وآله وسلم، فكان شديد الحسرة على عدم إيمانهم، وشديد الحزن عليهم؛ لأنهم سوف يكونون من أهل النار، ولذلك لما دخل على ذلك الشاب اليهودي الذي كان يحتضر، أمر النبي عليه السلام هذا الشاب اليهودي أن يشهد شهادة الحق، ويدخل في الإسلام، فنظر إلى أبيه، فقال له: أطع أبا القاسم -عليه الصلاة والسلام- ففعل ذلك الشاب ودخل في الإسلام، ثم مات؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مبتهجاً وفرحاً مسروراً وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار) فهذا هو شعور النبي عليه السلام بأمته، رحمة لأمته عليه والسلام، فكان يحزن حزناً شديداً، ويتحسر ويتألم لإعراض الكفار عنه لما يعلمه من العذاب الذي سوف يصيبهم، فقال الله سبحانه وتعالى مخففاً عليه: ((مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)) هل نحن أنزلنا عليك القرآن كي تتعذب وتتألم وتهلك نفسك من الخوف على الكافرين والحسرة عليهم؟ لا، {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:2 - 3] تذكرة لمن يخشى ويتقي الله سبحانه وتعالى.
وقال تبارك وتعالى: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ)) هل ستموَّت نفسك أم ماذا؟ هذا المعنى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) أي: هل ستهلك نفسك (عَلَى آثَارِهِمْ)؟ تخيلوا أن شخصاً يودع أحبابه الراكبين في القطار، وهو متحسر لفراق هؤلاء الأحباب، وحزين عليهم، فحتى والقطار يمشي، فهو يجري حتى يعجز عن القطار ويسبقه، وهذا نفس التصوير تقريباً في هذه الآية الكريمة (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ) يمشون وهم معرضون عنه، وهو يتبعهم بأقصى استطاعته (عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، فهل ستهلك نفسك أسفاً وحسرة عليهم وهم مصرون على الكفر؟ فبلا شك أن هذا غاية المحبة والإكرام من الله سبحانه وتعالى لنبيه وحبيبه وخليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.