قال العلامة السرخسي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} * ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من تنافي هذه العلة ومعلولها؛ لأن فتح الله لنبيه لا يظهر كونه علة لغفرانه له! والجواب عن هذا من وجهين: الأول: وهو اختيار ابن جرير لدلالة الكتاب والسنة عليه، أن المعنى: إن فتح الله لنبيه يدل بدلالة الالتزام على شكر النبي صلى الله عليه وسلم لنعمة الفتح.
الدلالة الوضعية للألفاظ إما أن تكون دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام، ودلالة المطابقة هي أن اللفظ يدل على المعنى الذي وضع له، مثل: لفظة (الإنسان) فيها دلالة مطابقة على الحيوان الناطق، فتنطبق تماماً عليه، أما دلالة التضمن فهي تدل على جزء المعنى، أي: دلالة اللفظ على جزء معناه، كما إذا قلت مثلاً: (الإنسان)، فتدل على جزء معنى الإنسان، أما دلالة الالتزام فهي دلالة تدل على لازم المعنى العقلي، يعني: إذا قلنا: أربعة فنفهم من هذا أن ذلك يلزم منه أن الأربعة عبارة عن عدد زوجي، فهذه دلالة الالتزام.
فقوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) يدل بدلالة الالتزام أنه يلزم من ذلك شكر النبي صلى الله عليه وسلم لنعمة الفتح، فإذا شكر الله على نعمة الفتح كافأه الله بأن يغفر له ذنوبه المتقدمة والمتأخرة بسبب شكره؛ لأنه يشكر الله بأنواع من العبادات يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، والجزاء إنما يكون على فعل العبد، لا على فعل الرب سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يقول: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، وهذا الفتح في حد ذاته لا يترتب عليه مغفرة الذنوب؛ لأن الذي فتح هو الله، وإنما الذي فعله النبي عليه السلام هو أنه بعدما فتح الله عليه قال بشكر نعمة الفتح، وامتثل ما أمره الله تعالى في قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، حينئذ فكان بعد الفتح يكثر من التسبيح والاستغفار، فغفر الله له طبقاً لذلك ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فصرح في هذه السورة الكريمة بأن تسبيحه بحمد ربه واستغفاره لربه شكراً على نعمة الفتح سبب لغفران ذنوبه؛ لأنه رتب تسبيحه بحمده واستغفاره بالفاء على مجيء الفتح والنصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، ثم قال: {فَسَبِّحْ} فهذا فيه ترتيب المعلول على علته، ثم بين أن ذلك الشكر سبب الغفران بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.
فهذا من حيث الدلالة من القرآن بتفسير الآية بسورة النصر، وأما دلالة السنة ففي قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض أزواجه: (أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكوراً؟!) يعني: قد غفر الله لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فيترتب على ذلك أن أشكر الله سبحانه وتعالى، فبين عليه الصلاة والسلام أن اجتهاده في العمل هو لشكر تلك النعمة، وترقب الغفران على الاجتهاد في العمل لا خفاء به، فـ: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) هذه عاقبة وثمرة اجتهاده في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالاستغفار والتسبيح والعبادة.
الوجه الثاني في تفسير الآية: أن قوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، يفهم منه بدلالة الالتزام الجهاد في سبيل الله، بمعنى: بما أنك -يا نبي الله- قد جاهدت في الله حق الجهاد، وترتب على هذا الجهاد الفتح من الله سبحانه وتعالى، فإن جهادك يكون سبباً لغفران ذنوبك المتقدمة والمتأخرة، فيكون المعنى هنا: ليغفر لك الله بسبب جهادك المفهوم من ذكر الفتح؛ لأن فتح الله له سبب، والسبب هو الجهاد في سبيل الله، فالمعنى: أنه ترتب على جهادك في سبيل الله سبحانه وتعالى حق الجهاد أن فتح الله عليك، فبسبب جهادك يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، هذا حاصل ما قاله المفسرون في هذه الآية، كذلك قال القاسمي كلاماً قريباً من هذا، وقال: أبو السعود: قوله: (ليغفر لك الله) غاية للفتح من حيث إنه مترتب على سعيه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله تعالى، بمكابدة مشاق الحروب، واقتحام موارد الخطوب.
قوله: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) أي: جميع ما فرط منك من ترك الأولى، وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل صلى الله عليه وسلم.