هناك حديث: (أن رجلاً قال للنبي عليه الصلاة والسلام: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم)، وجاء في حديث آخر: (لا تفضلوني على يونس بن متى، ولا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى)؛ فهذه الأحاديث تنهى عن التفضيل بين الأنبياء.
صلى الله عليه وسلم أن بعض العلماء سلك مسلك الترجيح بأن هذه الأحاديث آحاد، وأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة بالقرآن والسنة المتواترة والإجماع، فتكون راجحة بلا نزاع، هذا مسلك.
المسلك الآخر: الجمع، وهو من وجهين: الوجه الأول: أن هذه الأحاديث خرجت مخرج التواضع، مع الإشارة إلى حفظ مقام يونس عليه السلام.
الوجه الثاني: أنه قالها قبل أن يُعلمه الله بأفضليته عنده، فحين قالها لم يكن أوحي إليه هذه النعم العظمى التي أمره فيما بعد أن يخبر بها، كما في الحديث: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) يعني: ولا أقصد بذلك الفخر، لكن هذا من الوحي الذي لا ينبغي أن أكتمه؛ لأن من مقاصد الرسالة تعظيم النبي عليه السلام التعظيم اللائق به كما قال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9].
إذاً: الوجه الثاني: أنه قالها قبل أن يعلمه الله بأفضليته عنده، وبيان ذلك أن الله تعالى والى إفضاله على نبيه وقتاً بعد وقت، ولحظة بعد لحظة، فكان أول ما قال في الإنذار: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، ثم: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92]، ثم بعد ذلك قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، ثم صرف إليه الجن وبعثه إليهم أيضاً، ثم عمم بعثته فقال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1].
ثم أسرى به وأراه من آياته ما زاده رفعة وعلواً، ثم لما أمره بالجهاد، أمر الملائكة أن يجاهدوا معه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، أمر الملائكة أن يقاتلوا معه، وأن يكونوا من جنده صلى الله عليه وسلم، وهكذا كلما مرت على النبي صلى الله عليه وسلم لحظة زاد في نفسه فضلاً، ونال من مولاه موهبة، فكلما نزلت عليه آية أو سورة ازداد بها علماً وقربى، فكان علمه بأفضليته متأخراً عن صدور تلك الأحاديث منه، وقد قال صلى الله عليه وسلم بعدها: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، فكل فضل آتاه الله نبياً من الأنبياء اجتمع هذا الفضل كله في رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الله أثنى على إدريس بقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]، فلا يمكن أن يبلغ علو إدريس عليه السلام ما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال تبارك وتعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]، هل هناك ما هو أعظم من ذلك؟ إذا كان هود عليه السلام نصر بالريح فقد نصر محمد صلى الله عليه وسلم بالريح يوم الخندق في غزوة الأحزاب.
إذا كان يوسف عليه السلام قد أوتي شطر الحسن فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جميع الحسن عليه الصلاة والسلام، حتى كان من جمال صورته الشريفة عليه السلام ما حكاه بعض الصحابة: أنه رأى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة من الليالي في حلة حمراء، وكان القمر مكتملاً، فجعل الصحابي ينظر مرة إلى القمر ومرة إلى وجه رسول صلى الله عليه وسلم، فرآه أجمل من القمر؛ من شدة الحسن الذي آتاه الله سبحانه وتعالى.
إذا كان موسى عليه السلام من معجزاته أنه نبع الماء من الحجر فإن الماء نبع من أصابع النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة، وهذا بلا شك أقوى وأعظم.
إذا كان موسى عليه السلام من معجزاته انقلاب العصا إلى حية، فأيضاً حصلت معجزة حنين الجذع للنبي صلى الله عليه وسلم، فنفس الجذع كان يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما أمر بأن يتخذ له منبراً، وكان هناك جذع في المسجد يعتمد عليه النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الخطبة، ففي أول يوم أتى الرسول عليه الصلاة والسلام ليصعد إلى المنبر، ومر على الجذع ولم يستند إليه كالعادة -وهذا الحديث ثابت قطعاً، وهو متفق عليه-، فعلى مرأى من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن حن الجذع وبكى وارتفع صوته! وهذه آية من آيات الله عز وجل، يحن حنيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبكي بكاءً لفراقه، حتى نزل من على المنبر وأخذ يضمه إليه حتى سكت وله حنين كالطفل الذي يبكي ثم يهدأ ويظل يأتي ببعض الأصوات من شدة البكاء، فهكذا حن الجذع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم!! إذا كان موسى عليه السلام قال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]، فإن الله هو الذي قال لخليله محمد عليه السلام: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144]، عليه الصلاة والسلام.
وتلاحظون أنني دائماً أستعمل كلمة (خليله) بدل (حبيبه) كما يجري على ألسنة الناس أنهم يصفونه بالمحبة، وهو لا شك حبيب الله عز وجل، لكن الأفضل أن تقول: خليل؛ لأن الخلة أعلى درجات المحبة، فقولك: حبيب الله فيه تقصير؛ لأن الله اتخذ محمداً خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، كما صح بذلك الحديث.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قال لموسى عليه السلام: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39]، فإنه قد قال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، يعني: اتباعه صلى الله عليه وسلم يجلب للإنسان فضيلة ونعمة ما بعدها نعمة: {اتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه ُ}، وهذه بلا شك أعظم.
وإذا كان داود عليه السلام قد كانت الجبال تسبح معه، فقد سبح الحصى والطعام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا كان سليمان عليه السلام قد أوتي ملكاً عظيماً، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أوتي مفاتيح خزائن الأرض، وامتد ملك أمته حتى شمل معظم الكرة الأرضية.
وإذا كانت الريح سخرت لسليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإن البراق سخر له إلى حيث شاء الله سبحانه وتعالى من المنازل العالية.
على كل الأحوال: هذه إلمامة عابرة، وبقي كلام يسير متعلق بهذه المسألة، وهي خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نكملها بإذن الله في الدرس القادم.