قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية:25].
قال الله تبارك وتعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)؛ لأن الله باعث خلقه يوم القيامة.
(ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين)، أي: انشروهم أحياء حتى نصدق ببعثنا أحياء بعد مماتنا، يعني: أرونا دليلاً عملياً، يا ألله هات آباءنا وأحيهم الآن حتى نصدق أن هناك بعثاً ونشوراً! وقوله: (ما كان حجتهم إلا أن قالوا)، كيف يطلق على ذلك حجة؟ إما حقيقة بناء على زعمهم، يعني: ما كان حجتهم في زعمهم، وهم الذين وصفوها بأنها حجة، لكن هذه لا تصلح أن تكون حجة؛ فإنهم ساقوا هذا الكلام مساق الحجة، أو إن الحجة مجاز، وقالها الله تهكماً بهم كما في قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، وكذلك هنا: ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ))، استهزاء بما يسمونه حجة، كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، بمعنى: أنه لا حجة لهم ألبتة، وفيه مبالغة لتنزيل التضاد منزلة التجانس، حيث سمي ما هو ضد الحجة -وهو الجحد- باسم الحجة، فهذه من المبالغة؛ لأنه نزل الضد منزلة المتجانس.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: قال الزمخشري: فإن قلت: لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟ قلت: لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته، وساقوه مساقها؛ فسميت حجة على سبيل التهكم، أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة.
أو لأنه من باب أسلوب قول الشاعر: وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع يقول: إذا تلاقوا في الحرب جعلوا بدلاً من تحية بعضهم بعضاً الضرب الوجيع، فهل الضرب تحية؟ ليس تحية، بل هذا تهكم بأن التحية التي حيوا بها خصومهم الضرب الوجيع بالسيوف والقتل.
فكذلك قوله هنا: (ما كان حجتهم) من نفس هذا الأسلوب.
فالمقصود: أنه ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، والمراد نفي أن تكون لهم حجة ألبتة.
فإن قلت: كيف وقع قوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} [الجاثية:26] جواب قوله تعالى: (ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين)؟ يقول القرطبي: قلت: لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل، وحسبوا أن ما قالوه قول مسكت ألزموا ما هم مقرون به، من أن الله عز وجل هو الذي يحييهم ثم يميتهم، فهم يقرون بأن الله يحييهم؛ لأنهم يقرون بتوحيد الربوبية، فألزموا بما هم مؤمنون به على ما هم مكذبون به، فهم يقرون أن الله هو الذي يحييهم ثم يميتهم.
قال القرطبي: ضم إلى ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به، إن أنصفوا وأصغوا إلى داعي الحق.
قال تعالى: (قل الله يحييكم) ثم قال: (ثم يميتكم ثم يجمعكم) ضم إلى هذا العبرة في القدرة، فما دمتم آمنتم بقدرة الله على خلقكم وعلى إماتتكم، فيلزم على ذلك الإيمان بقدرة الله التي لا يحدها شيء، وقدرته العامة الكاملة على كل شيء، ومنه: خلقكم بعد البعث، فهذا هو أسلوب الإلزام بما يجب أن يقروا به لو أنصفوا.
قال القرطبي: وهو جمعهم يوم القيامة ومن كان قادراً على ذلك كان قادراً على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه.
قوله: (قل الله يحييكم) الاستدلال هنا بعموم قدرة الله، وأنتم تقرون بهذه القدرة، وينبغي بناء على ذلك أن تؤمنوا أيضاً بأنه يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، فإذا كان قادراً على هذا فهو أولى أن يكون قادراً على أن يحيي آباءكم، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يجيبهم إلى ما اقترحوه من الآيات، ولماذا لا يجيبهم الله عز وجل إلى ما اقترحوه من الآيات؟ قل لهم في جواب قولهم: (وما يهلكنا إلا الدهر): (الله يحييكم ثم يميتكم) لا الدهر، لما عرف بالوجوب رجوع العالم إلى واجب الوجود ومسبب الأسباب، ومصدر الكائنات، أو قل لهم في جواب إنكارهم البعث: من قدر على الإبداء يقدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما مر مراراً.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية:27] أي: فلا مالك غيره، ولا معبود سواه.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية:27] أي: الذين أتوا بالباطل في أقوالهم وأفعالهم، وهم عبدة غيره تبارك وتعالى.