قال العلامة القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) قال الله تعالى: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)، هذا نص البخاري ولفظه، وقد أخرجه مسلم أيضاً وأبو داود.
وفي الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر! فإن الله هو الدهر)، وسواء كان الدهر أو أي وقت آخر للزمان من الليالي والأيام، فهذا مما لا يجوز أن يسب، بل لبيان شرف الزمان أقسم الله به وبأجزائه وأبعاضه، فأقسم به في قوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، (والعصر) على أحد التفسيرات يعني: الوقت والزمان، فالله لا يقسم إلا بالآيات العظام والأمور الشريفة، فحينما أقسم بالدهر؛ أقسم ليبين لنا أن الدهر لا ذنب له إنما هو ظرف، وإنما الشؤم يكون من عمل الإنسان ومن كسبه، وليس للدهر في ذلك ذنب، كما يقول الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا وقد تساهل الناس في هذا خاصة في الأناشيد والأغاني والأمثال الشعبية ونحو هذه الأشياء، ففي كثير منها سب الدهر أو وصف اليوم أنه يوم أسود أو يوم كذا، ومن العجب أن يقع ذلك أحياناً في القنوت من بعض الأئمة! فقد اخترعوا دعاء: (وأرنا فيهم يوماً أسوداً)، ولا يمكن أن يكون هذا مأثوراً عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن فيه سب الدهر، وفيه أمر آخر وهو قولهم: (أسوداً) وهو على وزن أفعل، ممنوع من الصرف، ولا يمكن أن تكون أسوداً، والصواب لغة أسود، فلذلك الإنسان إذا لم يكن متمكناً من اللغة، ولا يحسن اختيار الألفاظ في الدعاء فعليه أن يدعو الله سبحانه وتعالى بالأدعية المأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام جمع ما لم يوجد في غيره من الفصاحة؛ فهو في قمة الفصاحة على الإطلاق عليه الصلاة والسلام، وهو أبلغ العرب وأنصحهم للأمة، وهو أعرف الناس بالله، وأخشاهم لله عز وجل، وأعلمهم بلغة العرب، فمن ثم دائماً الإنسان يحاول أن يقتصر على الدعاء المأثور الذي يعلمه من أجل السلامة من مثل هذه الاختراعات.
كان بعض المكروبين يتبجح ويقول في بعض أشعاره: أقول دهر أحمق الخطا يعني: يخبر أنه أحمق الخطا والعياذ بالله إلى غير ذلك من الأشعار، ولا يليق أن نذكرها كلها.
على أي حال نعود للحديث: (لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر! فإن الله هو الدهر) استدل بهذا الحديث من قال: إن الدهر من أسماء الله، وقال من لم يجعله من العلماء اسماً: إنما خرج رداً على العرب في جاهليتها، فإنهم كانوا يعتقدون أن الدهر هو الفاعل كما أخبر الله عنهم في هذه الآية، فكانوا إذا أصابهم ضر أو ضيم أو مكروه نسبوا ذلك إلى الدهر، فقيل لهم على ذلك: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) أي: إن الله هو الفعال لهذه الأمور التي تضيفونها إلى الدهر؛ فيرجع السب إليه سبحانه، فنهوا عن ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابن آدم)، ولقد أحسن أبو علي الثقفي حين قال: يا عائب الدهر إذا نابه لا تلم الدهر على غدره الدهر مأمور له آمر وأنت للدهر إلى أمره كم كافر أمواله جمة تزداد أضعافاً على كفره ومؤمن ليس له درهم يزداد إيماناً على فقره فمن الناس من يقول: الدر غدار، والزمن غدار، وهذا سب للدهر.
وروي أن سالم بن عبد الله بن عمر كان كثيراً ما يذكر الدهر فزجره أبوه وقال: إياك يا بني وذكر الدهر! وأنشد: فما الدهر بالجاني لشيء لحينه ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا ولكن متى ما يبعث الله باعثاً على معشر يجعل مياسيرهم عسرا يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وكان المشركون أصنافاً: منهم هؤلاء -أي: هؤلاء الذين يقولون: (نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) -، ومنهم: من كان يثبت الصانع وينكر البعث.
وهل مذهب الدهريين يدل على أنهم ينكرون وجود الله لا يستلزم أنهم ينكرون الله عز وجل، وإلا فمشركو العرب كانوا يقرون بوجود الله، وكانوا يوحدون توحيد الربوبية ومع ذلك كانوا ينكرون البعث، فلا تلازم بين إنكار البعث والنشور وبين إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، فلينتبه لهذا.
قال: ومن أصناف المشركين من كان يثبت الصانع وينكر البعث، ومنهم من كان يشك في البعث ولا يقطع بإنكاره.
وحدث في الإسلام أقوام ليس يمكنهم إنكار البعث خوفاً من المسلمين، فيتأولون ويرون القيامة موت البدن، ويرون الثواب والعقاب خيالات تقع للأرواح بزعمهم، فشر هؤلاء أضر من شر جميع الكفار؛ لأن هؤلاء يلبسون على الناس الحق، ويغتر بتلبيسهم الجاهل، وأما المشرك المجاهر بشركه فيحذره المسلم.
وقيل: نموت وتحيا آثارنا؛ فهذه حياة الذكر.
وقيل: أشاروا إلى التناسخ، أي: يموت الرجل فتجعل روحه في موات فتحيا به.