ثم قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:57 - 58].
((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا)) هذه الآية فيها عدة تفاسير منها: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا)) يعني: في كونه كآدم، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].
والمعنى: أنه بين وصفه الحق من أنه عبد مخلوق منعم عليه بالنبوة، عبادته كفر، ودعاؤه شرك، إذ لم يأذن الله بعبادة غيره.
وقوله: ((إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ)).
أي: من هذا المثل المضروب، ووصفه المبين ((يَصِدُّونَ)).
أي: يعرضون ولا يعون.
وقوله: ((وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ)) يعنون بآلهتهم الملائكة الذين عبدوهم، زعماً منهم أنهم بنات الله تعالى كما ذكر عنهم ذلك في أول السورة، يريدون أنهم خير من عيسى وأفضل؛ لأنهم من الملأ الأعلى، والنوع الأسمى، فإذا جازت عبادة المفضول فبالأولى عبادة الأفضل، هذا لأنهم يقررون على شركهم أصولاً صحيحة، ويبنون على تمسكهم أقيسة صريحة، وغفلوا لجهلهم عن بطلان المقيس والمقيس عليه، وأن البرهان القاطع قام على بطلان عبادة غيره تبارك وتعالى.
يعني: أنهم يستدلون بعبادة النصارى لعيسى عليه السلام على عبادتهم للملائكة، والملائكة أفضل من عيسى، فأولى أن تعبد الملائكة؛ لأنهم أفضل من عيسى! ولا شك في بطلان هذا القياس، وبطلان المقيس عليه، فأولاً: هل عبادتهم عيسى عليه السلام مما يرضي الله؟ أو هل أمر الله به؟ فالمقيس باطل، وهذا مجرد دعوى وكفر، وكذلك المقيس نفسه باطل، وهو عبادة الملائكة؛ للأدلة الواضحة التي سوف نذكرها، وكأنهم يقررون على شركهم أصولاً صحيحة، ويبنون على تمسكهم بالباطل أقيسة صريحة، وغفلوا لجهلهم عن بطلان المقيس والمقيس عليه، وأن البرهان القاطع قام على بطلان عبادة غير الله تعالى، وعلى استحالة التوالد في ذاته العادية، وإذا اتضح الهدى، فما وراءه إلا الضلال، والمشاغبة بالجدال.
فهذا أمر واضح وضوح الشمس، فإن كلا العبادتين باطل، سواء عبادة الملائكة أو عبادة المسيح عليه السلام.
فإذاً: هم في هذا الكلام يعرفون جيداً أن هذا باطل، لكنهم ما أرادوا إلا المشاغبة والجدال العقيم، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ((وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا))، يعني: هم مقتنعون أنهم لا يقيمون حجة، إنما يجادلون لدفع الحق.
فقوله: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا))، أي: ما ضربوا لك هذا القول إلا لأجل الجدل والخصومة، لا عن اعتقاد؛ لظهور بطلانه.
وقوله: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))، أي: شديدو الخصومة للباطل تمويهاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجهل) وما ذكرناه في تفسير هذه الآية هو الجلي الواضح لدلالة السياق والسباق، فقابل بين ما حكيناه وبين ما حكاه غيرنا وأنصف.
ثم رفع الله جل وعلا شأن عيسى عليه السلام فقال سبحانه وتعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59].
((إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ)) أي: عبد لله، ((أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)) أي: بالنبوة والرسالة.
وقوله: ((وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: آية وحجة عليهم، لما ظهر على يديه، مما أيد نبوته ورسالته، وصدق دعواه.