قوله تبارك وتعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قرئ بكسر الخاء وقرئ بفتحها، إما أنه أمر معترض بين الجملتين الخبريتين أو بتقدير (واتخذوا)، أي: وقلنا اتخذوا، وقرئ بفتح الخاء ماضياً معطوفاً على جعلنا، فتكون (واتخذوا) معطوفاً على جعلنا، أي: اتخذوه مصلى، ومقام إبراهيم هو الحرم كله كما ورد عن مجاهد، وعنه قال: جمع (مزدلفة) ومنى ومكة، ويقال: مقامه الذي هو في المسجد الحرام، فقد قال قتادة: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت الأمة شيئاً مما تكلفته الأمم قبلها، قال الراغب الأصفهاني: والأولى أنه الحرم كله، فما من موضع ذكروه إلا وهو مصلى أو مدعى أو موضع صلاة، يقول القاسمي: أقول كأن الأصل في الآية: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى، ذكرنا من قبل أن البيت المقصود به الكعبة، وهو يطلق على الكعبة، لكن المقصود الأمن داخل الحرم كله، فالمصلي في الحرم كله آمن، إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك، فلم يقل تبارك وتعالى مثلاً: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى، مع أن هذا هو المعنى، لكنه عدل عن ذلك إلى هذا الأسلوب الحكيم في قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) ولم يقل: واتخذوا منه مصلى، لوجوه: أحدها: التنويه بأمر الصلاة فيه، والتعظيم لشأنها، حيث أفرده للعناية بها جملة على حدة.
ثانيها: التذكير؛ لأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة، وما كان مقامه فجدير بأن يحترم ويعظم.
ثالثها: التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر، ولم يقل: ومصلى، وإنما قال: (واتخذوا)، فعدل عن الخبر إلى الأمر، إظهاراً أن هذا تشريع من الله سبحانه وتعالى، فالتنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر تمهيداً للأمر باستقباله، لأن هذه الأجزاء في الآيات كلها فيها إرهاصات بين يدي أمر خطير سيحصل قريباً، وهو تحويل القبلة، فالتنويه بقصة بناء البيت وتشريفه وجعله مثابة للناس وأمناً، ثم الأمر باتخاذه مصلى، إرهاص وتقديم وتوطئة وتمهيد بين يدي الأمر الذي سيأتي قريباً بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، فهذا تمهيد للأمر باستقباله، وإلزام لمن جادل فيه وهم اليهود، فإن اليهود جادلوا في تحويل القبلة، فالله سبحانه وتعالى يبين لهم شرف هذه القبلة الجديدة، وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)) والحديث نصه في البخاري عن أنس رضي الله عنه قال عمر رضي الله عنه: (وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية).
قال ابن كثير: ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت.
ومن ذهب إلى هناك تمكن من أن يراه، وهم يضعونه داخل تلك القبة النحاسية، ويضعون عليه حراسة، لأن كثيراً من الجهلة يعمدون إليه ويتمسحون به، وهذا من البدع والضلال، ومن دقق النظر داخل هذه القبة الزجاجية رأى الحجر بالفعل، وعليه موضع قدمي إبراهيم عليه السلام كالحفر، وموضع القدمين واضح جداً في الحجر نفسه.