العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى له كلام في هذه القضية أيضاً، يقول: اعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أنه إن كان لبعض الآيات بيان من القرآن لا يفي بإيضاح المقصود، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نتمم بيانه بذكر السنة المبينة له.
ورغم أن القاسمي في آخر كلامه أثنى على البخاري لأنه نبذ الإسرائيليات، لكن نلاحظ أيضاً أن القاسمي لم يتعرض لما في البخاري ومسلم من الأحاديث التي تعرضت لذكر السد، وذكر يأجوج ومأجوج، وتفاصيل ما سيقع في قيام الساعة، فهذا مما يضعف الاستناد لاستنباطات القاسمي، لأنه أهمل ذكر السنة مع أنه أثنى على البخاري رحمه الله تعالى.
وهذا الجانب من البحث الذي يعتبر نقطة ضعف من كلام القاسمي وفاه وعالجه من وجهة نظر أخرى العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى.
يقول: فإذا علمت ذلك فاعلم أن هاتين الآيتين الكريمتين لهما بيان أوضحته السنة، فصار بضميمة السنة إلى القرآن بياناً وافياً بالمقصود، والله جل وعلا قال في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة وآية الأنبياء قد دلتا في الجملة على أن السد الذي بناه ذو القرنين -دون يأجوج ومأجوج - إنما يجعله الله دكاً عند مجيء الوقت الموعود بذلك فيه، وقد دلتا على أنه بقرب يوم القيامة؛ لأنه قال هنا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:98 - 99]، وأظهر الأقوال في الجملة المقدرة التي عوض عنها تنوين (يومئذ) من قوله: ((وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض)) أنه إذا جاء وعد ربي بخروجهم وانتشارهم في الأرض.
ولا ينبغي العدول عن هذا القول لموافقته لظاهر سياق القرآن العظيم، وإذا تقرر أن معنى يومئذ: يوم إذ جاء الوعد بخروجهم وانتشارهم، فاعلم أن الضمير في قوله: (وتركنا بعضهم)، على القول بأنه لجميع بني آدم، فالمراد يوم القيامة.
وإذاً: فقد دلت الآية على اقترانه بالخروج إذا دك السد وقربه منه، وعلى القول بأن الضمير راجع إلى يأجوج ومأجوج، فقوله بعده: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف:99]، يدل في الجملة على أنه قريب منه.
قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف:98]، هو إشارة إلى السد، أي: هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده، أو: هذا الإقدار والتمكين من تسويته ((فإذا جاء وعد ربي)) يعني: فإذا دنا مجيء يوم القيامة، وشارف أن يأتي جعل السد دكاً أي: مدكوكاً مبسوطاً مسوىً بالأرض، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك، ومنه الجمل الأدك المنبسط السنام.
وآية الأنبياء المشار إليها هي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء:96 - 97].
لأن قوله تعالى: ((حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج))، وإتباعه لذلك بقوله: ((واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا)) يدل في الجملة على ما ذكرنا في تفسير آية الكهف التي نحن بصددها، وذلك يدل على بطلان قول من قال: إنهم روسيا -إن يأجوج ومأجوج هم الروس- وإن السد فتح منذ زمان طويل.
فإذا قيل: إنما تدل الآيات المذكورة في الكهف والأنبياء على مطلق اقتراب يوم القيامة من دك السد، واقترابه من يوم القيامة، لا ينافي كونه قد وقع بالفعل.
يعني: إنه يوجد قول آخر يرد على هذا الكلام، يقول: اقتراب القيامة ليس فيه إشكال، وتوجد علامات كثيرة جداً تدل على اقتراب الساعة، كبعثة النبي محمد عليه السلام.
يقول: كما قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها)؛ فقد دل القرآن والسنة الصحيحة على أن اقتراب ما ذكر لا يستلزم اقترانه به، بل يصح اقترابه مع مهلة، وإذاً فلا ينافي دك السد الماضي المزعوم الاقتراب من يوم القيامة، فلا يكون في الآيات المذكورة دليل على أنه لم يدك السد إلى الآن؟ فالجواب هو ما قدمنا: أن هذا البيان بهذه الآيات ليس وافياً بتمام الإيضاح إلا بضميمة السنة له.
يعني رغم محاولة الشنقيطي لاستنباط هذا المعنى من آيتي سورة الكهف وسورة الأنبياء، يقول: لكنه يحتاج لمزيد من الإيضاح عن طريق السنة.
يقول: ولذلك ذكرنا أننا نتمم مثله من السنة؛ لأنها مبينة للقرآن.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا الوليد بن مسلم حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص، حدثني عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي: أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه قال: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: ما شأنكم؟، قلنا: يا رسول الله! ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط عينه طافئة، كأني أشبهه بـ عبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا.
قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم.
قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا.
اقدروا له قدره.
قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت دراً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله؛ فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله.
ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم -أي: لا أحد يستطيع أبداً أن يقاتلهم- فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خير من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم؛ فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة.
يدعو عليهم المسيح عليه السلام فيهلكهم الله سبحانه وتعالى.
ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً، لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة -المجموعة من الناس- من الرمانة، ويستظلون بقحفها -قحف الرمان هو ورقه- ويبارك الله في الرسل؛ حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة).
وهذا الحديث رواه مسلم.
وهذه الريح هي التي تأتي من اليمن تقبض نفس كل مؤمن، وهي المشار إليها بقول النبي عليه السلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)، يعني: حتى تأتي هذه الريح التي تقبض أرواح جميع المؤمنين.
قال: وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يوحي إلى عيسى بن مريم خروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال، فمن يدعي أنهم روسيا، وأن السد قد اندك منذ زمان، فهو مخالف لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها، ولا شك أن كل خبر ناقض خبر ا