قال الراغب: إن قيل: من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى؟ قيل: قد ذكر في الشرائع المتقدمة: أنهم كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب، وعلى الكبير منهم اسم الإله، حتى إنهم قالوا: إن الأب هو الرب الأصغر، وإن الله هو الأب الأكبر، وكانوا يريدون بذلك: أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان، وأن الأب هو السبب الأخير في وجوده، وأن الأب معبود الابن من وجه -يعني مخدومه؛ لأن الابن يخدم أباه- وكانوا يقولون للملائكة: آلهة، كما قالت العرب للشمس: إله، وكانوا يقصدون معنى صحيحاً، كما يقصد علماؤنا بقولهم: الله محب ومحبوب ومريد ومراد، ونحو ذلك من الألفاظ، وكما يقال للسلطان: الملك، وقول الناس: رب الأرباب وإله الآلهة ومالك الملوك، مما يكشف عن تقدم ذلك التعارف، ويقوي ذلك: ما يروى أن يعقوب كان يقال له: بكر الله، وأن عيسى كان يقول: أنا ذاهب إلى أبي، ونحو ذلك من الألفاظ.
وهذه عبارات وجدت في الشرائع السابقة بهذه المعاني، وهي معاني صحيحة، لكنها ألفاظ متشابهة أدت إلى أن الجهلة فيما بعد طوروا لجهلهم هذه الألفاظ إلى معنى الولادة الطبيعية، فصار ذلك منهياً عن التفوه به في شرعنا، فلا يصح في شرعنا أن نستعمل هذه العبارات تنزهاً عن هذا الاعتقاد، بل نهي عن ذلك في شرعنا واجتنب حتى صار إطلاقه -وإن قصد به ما قصده هؤلاء- قرين الكفر.
ثم قال عز وجل: (بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون).
(بديع السماوات والأرض)، أي: مبدعهما وخالقهما على غير مثال سبق، وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له: أبدعت، ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة: مبتدع؛ لأنه أتى بما لم يسبق إليه السلف الصالح، ولأنه يأتي في دين الإسلام بما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، وهذه الجملة حجة أخرى لدفع تشبثهم بولادة عيسى بلا أب، وعلم عزير بلا تعلم، لأنهم قالوا: نحن نعبد عيسى لأن عيسى ليس له أب من البشر، فتشبثوا بهذا كحجة على عقيدتهم الباطلة بولادة عيسى بدون أب، وكذلك اليهود الذين عبدوا عزيراً تشبثوا بعلم عزير بلا تعلم، فقالوا: هو ابن الله، وتقرير الحجة من خلال هذه الآية وهي قوله: (بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) إن الله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها، فلا يبعد أن يوجد أحد بلا أب، أو يتعلم أحد بلا واسطة بشر.
يقول الراغب: ذكر تعالى في هذه الآية حجة رابعة شرحها: إن الأب هو عنصر للابن منه تكون، والله مبدع الأشياء كلها، فلا يكون عنصراً للولد؛ لأن الأب عنصر الابن.
يعني الابن يتكون من أبيه، والله سبحانه وتعالى هو الذي أبدع الأشياء كلها، فلا يكون عنصراً للولد، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلاً.
(وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) أي: إذا أراد أمراً، والقضاء: هو إنفاذ المقدر، والمقدر: ما حد من مطلق معلوم.