حجج نفي الولد عن الله تعالى

كل ما في السماوات والأرض كائن ما كان من أولي العلم وغيرهم (له قانتون) أي منقادون لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته، ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشيء، لماذا؟ لأن من حق الولد أن يكون من جنس الوالد؛ فهؤلاء الذين تعبدونهم أو الذين تزعمون أنهم أولاد الله كالمسيح وعزير والملائكة؛ كلهم قانتون لله سبحانه وتعالى منقادون له، لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته، فبالتالي لا يتصور أنهم يجانسون الله سبحانه وتعالى؛ لأن من حق الولد أن يكون من جنس الوالد.

قال الراغب في تفسيره: نبه على أقوى حجة على نفي ذلك، أي: أن هذه الآية فيها أقوى حجة على نفي الولد لله سبحانه وتعالى، يقول: وبيانها هو أن لكل موجود في العالم مخلوقاً طبيعياً أو معمولاً صناعياً غرضاً وكمالاً أوجد لأجله.

كل مخلوق في هذا العالم سواء كان مخلوقاً طبيعياً أو معمولاً صناعياً، مصنوعاً غرضاً وكمالاً أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض، أي: بصفة عارضة، فمثلاً: صنعت السيارة للركوب وتوصيل الناس إلى الأماكن التي يحتاجونها، لكن هل السيارة مثلاً تتخذ غرفة لاستقبال الضيوف؟ يمكن أن يحصل للإنسان أن يستقبل ضيوفه مثلاً بصفة عارضة ويجلسهم في غير مكان الجلوس المعتاد، لكن هل هذا الغرض الأساسي لها؟ فهذا مثال في المعمولات المصنوعة، أما المخلوقات الطبيعية فأيضاً كل كائن خلق لهدف أساسي له غرض وكمال أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره عرضاً، فاليد مثلاً خلقت للبطش والتناول والأخذ والعطاء، فهذه وظيفة اليد، والرجل خلقت للمشي، وإن كان الإنسان قد يمشي على يديه، ويمكن أن يتناول الأشياء بقدمه، لكن هل هذا هو الغرض الأسمى المقصود منه؟ لا، كذلك السكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر.

يقول: إن لكل موجود في العالم مخلوقاً طبيعياً أو معمولاً صناعياً غرضاً وكمالاً أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض، كاليد للبطش، والرجل للمشي، والسكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حال والرجل للتناول، لكن ليس على التمام، والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه، وجزء منه لما لم يجعل الله له سبيلاً إلى بقائه بشخصه؛ فجعل له بذراً لحفظ نوعه.

كل إنسان لابد أن يموت، له فترة حياة معينة ثم يموت بعدها، فمن أجل ذلك جعل الله سبحانه وتعالى الحكمة تعمير هذه الأرض وبقاء النوع الإنساني فجعل البذر -وهو ما يخرج من صلب الرجال- بذوراً وحرثاً كي يتوالى ويخلف بعضهم بعضاً، أجيالاً تخلف أجيالاً ولا تخرب الأرض، بل يبقى النوع الإنساني من خلال هذا التوالد ومن خلال هذا التناسل، ويقوي ذلك: أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذراً واستخلافاً لما لم يجعل لها فناء النبات والحيوان، فهل الشمس أو القمر تفنى وتموت كما يموت النبات والحيوان؟ لا، ولذلك لم يجعل الله للشمس والقمر بذوراً حتى إذا ما فنيت أو ماتت يخلفها غيرها، فهذه المخلوقات لما لم يجعل الله لها سبحانه وتعالى الفناء الذي هو فناء النبات والحيوان لم يجعل لها بذراً.

يقول: ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم بلا ابتداء ولا انتهاء سبحانه وتعالى، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى، ولهذا قال: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:171] أي: هو منزه عن السبب المقتضي للولد، يعني: الله سبحانه وتعالى غني عن أن يكون له ولد؛ لأن الله هو الأول الذي لا شيء قبله، وهو الآخر الذي لا شيء بعده، وكل شيء هالك إلا وجهه، قال الله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، فالشاهد من هذا: أن الغرض من اتخاذ الولد؛ بقاء النوع الإنساني، فالله هو الباقي الذي لا يفنى ولا يزول ولا يبيد سبحانه وتعالى، فمن ثم لا حاجة لله سبحانه وتعالى الذي يتنزه عن الافتقار وعن الحاجة في الولد، فهو الغني وأنتم الفقراء إلى اتخاذ الولد، هذا هو المعنى الأول، ولذلك قال الله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولداً) انظر

صلى الله عليه وسلم ( سبحانه) تنزه، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] جاء

صلى الله عليه وسلم { قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة:116] تنزيهاً لك، هذا لا يليق بك، فكيف أقوله؟! كذلك هنا قال عز وجل: (سبحانه) هو منزه عن هذا؛ لأن هذا نقص، ولا يليق هذ النقص بالله سبحانه وتعالى.

يقول: ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما يعني: أن الإنسان يقتني الأولاد لفقره؛ يريد امتداد نسله، فهذا نوع من الفقر، ونوع من الاحتياج إلى امتداد النسل وبقاء النوع، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، أو الفقر إلى أن يعينه هذا الولد ويتحمل عنه مسئوليات الحياة، أو يعينه لشدة حاجته إليه.

قال: ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما، وذلك لما تقدم أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلفه؛ لأن الإنسان غير كامل في نفسه، بين تعالى بقوله: (بل له ما في السماوات والأرض) أنه لا يتوهم له فقر، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سد لفقره، فصار في قوله: (له ما في السماوات والأرض) دلالة ثانية، إذا كان الله سبحانه وتعالى غنياً حميداً له ما في السماوات والأرض فهل يحتاج ويفتقر إلى ولد؟ ثم زاد حجة بقوله: (كل له قانتون)، فإذا كان هو يملك هؤلاء جميعاً بما فيهم المسيح وعزير والملائكة، (بل له ما في السماوات والأرض) هؤلاء عبيده، وهو ربهم ومالكهم وخالقهم، فكيف يحتاج إليهم؟! ولما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ومظاهرته كما قال عز وجل: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:72]، بين أن كل ما في السماوات والأرض مع كونه ملكاً له قانت له أيضاً: إما طائعاً وإما كارهاً وإما مسخراً، يعني كل من في السماوات والأرض قانتون بمعنى مطيعون منقادون، إما طواعية وإما رغم أنوفهم تجري عليهم أحكام الله، يمرضه إذا شاء أن يمرضه، ويميته إذا شاء أن يميته، ويبتليه إذا شاء أن يبتليه، ولا يملك دفعاً لأمره، هذا هو القنوت الاضطراري، وهو غير القنوت الاختياري الذي عليه أهل الطاعة والتوحيد، وهذا كقوله: {ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد:15] وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، وهكذا أبلغ الحجة لمن هو على المحجة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015