ذكر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة وهي مصر فقال عز وجل: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30].
((وقال نسوة في المدينة)) أي: بعد أن انتشرت الشائعات، فمثل هذه الحوادث تشيع وتنتشر من قبل النساء، أما يوسف فلا يمكن أن يكون قد أذاع هذا، بل يوسف يتنزه عن أن يكون هو مصدر هذه الشائعات عليه السلام.
((امرأة العزيز)) العزيز هو الأمير، مأخوذ من العز وهو الشدة والقهر، وقد غلب على أمير مصر والإسكندرية، الحقيقة هنا مناسبة لأن نعلق تعليقاً عابراً بالنسبة لاستعمال كلمة (العزيز) في القرآن، نقدم لها بالتعريف بعمالقة مصر الذين يسمون بالهكسوس، وهم العمالقة الذين كانوا يسكنون في جنوب فلسطين ومنطقة العقبة وجزء من سيناء المصرية، وكان يطلق عليهم الشاة أو ملوك الرعاة، وهم أبناء عم عمالقة العراق الذين كونوا دولة بابل الأولى، وأبناء عم عادٍ وثمود.
اندفعت الهكسوس الهمجية ودهمت في فترة من فترات الضعف السياسي في مصر حدود مصر الشرقية، مكتسحةً أمامها كل شيءٍ في مصر، ومما ساعدهم على ذلك كثرتهم العددية وقوتهم العسكرية، واستخدام الخيول والعجلات الحربية، والخناجر والسيوف البرونزية -لأن سيوف المصريين كانت من النحاس- والأقواس المركبة البعيدة المدى، وهذه الأسلحة لم يعرفها المصريون، فأخضعوا الدلتا وجعلوا شرق مصر وشمال الدلتا في محافظة كفر الشيخ الحالية من أهم عواصمهم ومراكزهم الهامة في مصر، ثم واصل الهكسوس زحفهم جنوباً فاحتلوا عاصمة مصر التي بالقرب من البدرشين في محافظة الجيزة الآن، ثم سيطروا على شمال الصعيد حتى منطقة القوصية بالقرب من أسيوط، وتحصن المصريون في طيبة التي هي الأقصر حالياً في جنوب الصعيد.
فالهكسوس كانوا يقتحمون البلاد من جهة الشمال، ومملكة الكوز في بلاد النوبة، مملكة قوية كانت تضم جنوب وشمال السودان وأجزاء من الحبشة، وأساءوا معاملة المصريين واستذلوهم وأجبروهم على دفع الجزية، وظلوا يحكمون مصر أو معظم مصر مدة مائة وخمسين سنة من (1720 ق م) إلى (1570 ق م).
خلاصة الكلام أن الهكسوس أصلهم عمالقة فلسطين، وأصل الهكسوس من العرب.
فملوك الهكسوس الذي حكموا مصر غير ملوك الفراعنة.
الشيخ عبد الرحمن يوسف العبسي يذكر في كتاب له اسمه: (إرم ذات العماد) يقول: إن يوسف عليه السلام نزل مصر وعاش فيها في زمن حكم ملوك الهكسوس، لذلك نجد أن القرآن الكريم حينما يتحدث عن حكام مصر في عهد سيدنا يوسف عليه السلام ينعتهم بألقاب عربية؛ لأنهم عرب مثل: لقب السيد، ولقب: العزيز وهي ألقاب عربية، ونحن نعرف أن الهكسوس عماليق من العرب البائدة، ومن أمثلة ذلك قال الله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] وقوله عز وجل: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يوسف:30].
أما حينما نجح المصريون في طرد الهكسوس من مصر وسيطر المصريون مرةً أخرى على مقاليد البلاد، وبدأ عصر جديد هو عصر المجد الحربي الذي ضم كبار الملوك المصريين مثل: خوفو ورمسيس وهو نفس العصر الذي أرسل فيه سيدنا موسى إلى مصر، فنجد القرآن الكريم يذكر حكام مصر بلقب المصريين القديم فرعون، وهو اللقب المصري لكل ملوك مصر ومعناه: البيت العالي، يقول الله تعالى لموسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24].
لاشك أن الإشارة إلى ملوك الهكسوس بالألقاب العربية، وملوك الفراعنة بلقب الفرعون أن هذا من معجزات القرآن الكريم ودقة تعبيراته، فهذا إشارة إلى أن هذا العزيز لم يكن من الفراعنة؛ لأن هذا حصل في زمن الهكسوس.
((قد شغفها حباً)) أي: خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد، والشغاف كالسحاب حجاب القلب.
((إنا لنراها في ضلال مبين)) أي: في خطأ عن طريق الرشد والصواب، وإقحام الرؤية للإشعار بأن حكمهن بضلالها صادر عن رؤية وعلم، مع التلويح إلى تنزههن عن مثل ما فعلته هي، كعادة المغتاب، فالمغتاب يكون قصده من الغيبة رفع نفسه بتنقيص الآخرين، فعندما يقول: فلان ليس عنده ورع معناه: أنه يقصد أنني أنا الذي عندي ورع، وكأن يقول: فلان مثلاً بخيل، وهو لا يقصد فقط ذمه وإنما يريد أن يصف نفسه بالكرم وهكذا، وقوله عنهن: ((إنا لنراها في ضلالٍ مبين)) فيه توكيد بإن واللام.