قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] ((يوسف أعرض عن هذا)) نودي بحذف حرف النداء؛ لقربه وكمال تفطنه للحديث، والمعنى أعرض عن هذا الأمر واكتمه ولا تحدث به.
((واستغفري لذنبك)) أي: الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب، وقذفه بما هو بريء منه.
((إنك كنت من الخاطئين)) أي: من جملة القوم المتعمدين للذنب يقال: خَطِئ إذا أذنب متعمداً، وأخطأ إذا فعله من غير تعمد، ولذلك ينبغي للشخص الذي يتكلم في خلافات العلماء ألا يقول: وهذا القول خاطئ، لكن يقول: إن هذا القائل مخطئ نسبة إلى الخطأ وليس إلى الخطيئة، فليلتفت لهذا؛ لأن هذا التعبير يستعمل كثيراً على ألسنة الكثير من طلبة العلم، يقول: هذا المذهب خاطئ.
وهذا القول خطأ؛ لأن الخاطئ هو الشخص الذي يتعمد الوزر والإثم، أما الخطأ نتيجة الاجتهاد مثلاً فيقال فيه: خطأ ويقال لصاحبه: مخطئ، وليس خاطئاً، إلا إذا تعمد، ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب.
(إنك كنت من الخاطئين) وإيثار جمع السالم تغليباً للذكور على الإناث؛ لأن الخاطئين فيهم رجال وإناث فغلب التذكير كما هو معلوم، ودل هذا على أن العزيز كان رجلاً حليماً إذ اكتفى من مؤاخذتها بهذا المقدار، قال ابن كثير: أو أنه عذرها؛ لأنها رأت ما لا صبر لها عنه.
ويقال: إنه كان قليل الغيرة.
قال الشهاب: وهذا لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام.
وقال أبو حيان كلاماً مؤذياً جداً سامحه الله يقول: إنه مقتضى تربة مصر.
والكثير من الناس للأسف الشديد ينزعون منزعاً غير مرضي، فبعض الناس يفيضون في هذا الكلام حتى قال بعضهم: ولذلك ترى الأسود لا تعيش في أرض مصر؛ لأن عندها غيرة، فلا شك أن هذا الكلام من العدوان، خاصة بعد أن شرف الله سبحانه وتعالى مصر بالإسلام، ما ينبغي أبداً أن يقال هذا الكلام، فنقرأ أحياناً في بعض الكتب أشياء مزرية، فهذا كتاب أظن اسمه (مرآة النساء فيما حسن منهن وساء)، كان يقول على سبيل الجزم والقطع: إن الرجال في مصر طبعهم غريب جداً في انقيادهم للنساء، حتى إنه لا يوجد في مصر رجل إلا ويخاطب امرأته بقوله: يا سيدتي.
فهذا بلا شك من العدوان، هل أحد يعرف هذا؟! فيحلو لبعض الناس سوء الظن بأهل مصر، وأن أهل مصر ليس عندهم غيرة، وأنا سمعت بنفسي شيئاً من هذا في بعض البلاد، فقد كنت في أبها وكان هناك حفل لتحفيظ القرآن، وكان الأمير خالد الفيصل حاضراً ذلك الحفل في المسجد الكبير هناك، وقام أحد المحاضرين من المشايخ الفضلاء -لا داعي لذكر اسمه- فتكلم عما يفعله العصاة والفساق من أهل بلادهم، فيقول: ويفعلون كذا وكذا ويذهبون إلى مصر! وكأن الذهاب إلى مصر سبة، والسبب في هذا الفسقة والفجرة من أهل الفن الممثلين والملاحدة والفساق والفجار، فالناس تنظر أن هذه هي مصر، وأن أهل مصر لا يعرفون الشرف ولا العرض ولا الغيرة ولا الكرامة، لكن منذ أن أعزنا الله بالإسلام ولله الحمد نحن نفخر بإسلامنا لا بشيءٍ آخر، ولكن ليس من الحكمة أبداً أن الإنسان إذا كان يخاطب قوماً ويتكلم باسم الإسلام، خاصة إذا كان عالماً أو مصنفاً أن يدق هذا الوتر في قلوب الناس؛ لأنه يجرح كثيراً.
نستحضر قصة الإفك كيف أن سعد بن معاذ لما قام وهو رئيس الأوس وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: (إن كان من قومي الأوس فأنا امتثل فيه رأيك، وإن كان من إخواننا الخزرج فمرنا فيه لنقتلنه، فغضب رئيس الخزرج وقال: لا تقتله ولا تستطيع أن تقتله وكان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً على المنبر، وكادت أن تحصل فتنة عظيمة بينهم) انظر إلى العصبية القبلية أو الوطنية.
إذاً: من يتكلم باسم الإسلام ينبغي ألا يقترب من موضوع العصبية والقبلية والطائفية، للأسف الشديد هناك أمور كثيراً ما تحصل تجد الواحد يقول: هذا من الصعيد وفلان هذا بحراوي، وللأسف ترانا نجري مع الناس الجهلة في هذه النعرة الجاهلية، وحتى على مستوى المحافظات تجد لكل محافظة صفة معينة قبيحة ظلماً وعدواناً.
فلا ينبغي أن نسترسل مع هذه المسالك؛ لأنه لا يليق أبداً بمن أعزه الله سبحانه وتعالى بالإسلام أن يحصل منه مثل هذا الكلام، فكل من كان مثلنا في الإسلام فهو أخونا سواء من أهل بلدنا، أو من أهل محافظتنا، أو من أهل مصرنا، أو من أي بلد إسلامي، أما التعميم فبلا شك أنه ظلم فادح، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء)، فهذا فيه مراعاة لشعور الناس، انظروا كيف وصلت إلى هذا الحد، حتى الميت لو كان يستحق السب لا تسبه رعايةً لحرمة قريبه الحي! حتى ولو كان هذا كافراً أو فاسقاً، فلا تؤذوا الأحياء، فكيف بالمسلمين؟! وقال أبو حيان: إنه مقتضى تربة مصر بتحلي أهلها بهذه الصفة التي يزعمون.
ثم يقول القاسمي: وقد تقرر للمحققين أن الاختلاف في أحوال العمران في الخصب والجدب وأقاليمه في الحرارة والبرودة وتوابعها له أثر في أخلاق البشر وأبدانهم.
انظر المقدمة الرابعة والخامسة من مقدمة ابن خلدون، وعفا الله عن الجميع!