تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف)

قال تبارك وتعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88] قالوا: -أي: اليهود- للنبي صلى الله عليه وسلم استهزاءً: قلوبنا غلف، وغلف بتسكين اللام جمع أغلف، أي: مغشاة بأغطية فلا تعي ما تقول، ولا يصل إليها ما تقول من هذا الدين! قال تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:88]، بل هنا للإضراب، يعني: ليست القضية أن قلوبهم غلف، بل هي أشد من ذلك، فقد لعنهم الله وأبعدهم من رحمته وخذلهم من القبول، وليس عدم قبولهم لخلل في قلوبهم.

{فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88] (ما) زائدة لتأكيد القلة، يعني: إيمانهم قليل جداً، ويزيد هذه الآية إيضاحاً قوله تبارك وتعالى: (وقالوا قلوبنا غلف) الواو هنا واو عطف على استكبرتم، فتكون تفسيراً للاستكبار، يعني التكذيب بسبب الاستكبار، وعلى التقديرين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ لأن استكبرتم وكذبتم فيها خطاب، فسواء كان العطف في (وقالوا قلوبنا غلف) على استكبرتم أو عطف على كذبتم ففي الحالتين يوجد صورة من صور البلاغة وهي الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، فالالتفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عن مخاطبتهم وإبعاداً لهم عن عز الحضور الذي يقتضيه سياق المخاطب.

وقولهم: (قلوبنا غلف) أي: لا فائدة منا، كما قال غيرهم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء:136]، وقصدوا بهذا إقناط النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجابة، وقطع طمعه عنهم بالكلية، يعني: ليس هناك أي أمل، فلا تطمع أبداً أننا نستجيب لدينك! وقال السدي: يقولون: عليها غلاف، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله (غلف): قلبي عليه غلاف فلا يخلص إليه ما تقول، أي عندما تريد أن تقول لإنسان: لن يؤثر فيَّ كلامك، فتقول له: قلبي عليه غلاف فلن يصل إليه هذا الكلام الذي تقول، وقرأ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5]، وهذا هو الذي رجحه ابن جرير، واستشهد له بما روي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: (القلوب أربعة -فذكر منها-: وقلب أغلف مغضوب عليه، وذاك قلب الكافر).

أي: أنه موضوع داخل غلاف.

والغلف جمع أغلف، مثل كلمة حمر جمع أحمر، وهناك جمع ثانٍ غلُف، لكن الغلْف بتسكين اللام جمع أغلف، كأحمر وحمر، والأغلف هو الذي لا يفقه، وأصله في الذي لم يختن، يعني: أن قلوبنا مغشاة بأغشية خلقية مانعة عن وصول ما جئت به إليها، وهذا مثل قولهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5] أو جمع غلاف، ويجمع على غلُف، يعني: إما أن قلوبنا غلف جمع أغلف أو جمع غلاف، كخمار وخمر، ويجمع على غلف، فهي داخل أغطية وأغشية وأغلفة فلا يصل إليها ما تقول من هذا الدين، أو هي أوعية للعلم، ونحن مستغنون عما تأتينا به، ولا نحتاج إلى ما عندك من العلم أو الوحي، فيمدحون أنفسهم ويزكونها لعنهم الله، أي: فلو كان ما تقوله حقاً وصدقاً لوعته، فقلوبنا مملوءة علماً فلا تسع بعد ذلك شيئاً، فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، وما عندنا من التوراة نحن مستغنون به عن القرآن، فهذا تفسير آخر أنهم أرادوا أنها أوعية مملوءة بالعلم، فكيف لمثلنا أن يتبع إنساناً أمياً؟! وهذا تفسير بعيد.

عن ابن عباس قال: يقولون: (قلوبنا غلف) يعني أوعية مملوءة، ولا نحتاج إلى علم محمد ولا غيره، قال ابن جرير: (وقالوا قلوبنا غلف) جمع غلاف، أي: أوعية، بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بالعلم، لا يحتاجون معه إلى علم آخر، ولهذا قال تعالى: (بل لعنهم الله بكفرهم) أي: ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155] إلى آخر الآية.

وقوله تعالى: (بل لعنهم الله بكفرهم)، هذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه، والمعنى: أن قلوبكم أصلاً خلقت على فطرة التمكن من النظر الصحيح الذي يوفق إلى الحق كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)؛ فقلوبكم أصلاً كانت مهيئة للهداية والانقياد للحق، والنظر الصحيح الذي يئول ويؤدي إلى الحق، لكن الله تبارك وتعالى أبعدهم وأبطل استعدادهم الخلقي الفطري للنظر الصحيح بسبب اعتقاداتهم الفاسدة، وجهالاتهم الباطلة الراسخة في قلوبهم، يعني: لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.

أو المقصود: أنها لم تأب قبول ما تقوله لعدم كونه حقاً وصدقاً، فهؤلاء اليهود رفضوا ما دعوتهم إليه من الحق ليس لأنه ليس حقاً ولا صدقاً، وإنما لأنه سبحانه وتعالى طردهم وخذلهم بكفرهم فأصمهم وأعمى أبصارهم.

أو أن المعنى: أن الله سبحانه وتعالى أقصاهم عن رحمته؛ فأنى لهم ادعاء العلم الذي أعظم أثر له هو حصول رحمة الله، فالله سبحانه وتعالى طردهم من رحمته، فمن يطرد من رحمة الله لن يكون عالماً علماً ينفعه، فإذا كانت فعلاً قلوبكم فيها علم، فالعلم يكون سبباً لحصول الرحمة، وأنتم مطرودون من الرحمة، فالمسألة أنكم مطرودون مخذولون، وليست المسألة علماً تدعونه في قلوبكم.

{بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88] الفاء هنا سببية، يعني: بسبب لعنة الله إياهم، (فقليلاً ما يؤمنون) المقصود أنهم يؤمنون إيماناً قليلاً و (ما) مزيدة لتأكيد معنى القلة، (فقليلاً ما يؤمنون) قيل: أي يؤمنون ببعض الكتاب، وقيل: لأن المؤمنين منهم قليلون، وقيل: زماناً قليلاً يؤمنون فيه بالحق، قيل: هو زمن الاستفتاح، كانوا يستفتحون فيه على الذين كفروا، إذا حصل بينهم وبين المشركين قتال يقولون لهم: إن هذا الزمان زمان بعثة نبي، فنأوي إليه، وسنؤمن به ونقاتلكم ونغلبكم، أو هو زمان بلوغ الروح التراقي فيؤمنون عندما تبلغ أرواحهم التراقي، وقيل: هو إيمان مؤقت، وهو المشار إليه في قوله تبارك وتعالى حكاية عنهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [آل عمران:72] حرب نفسية، أي: تظاهروا بالدخول في الإسلام في الصباح ثم ارتدوا عنه في المساء، وهذا طعن في هذا الدين وتشكيك للناس فيه، يقولون: لماذا ارتدوا؟! لأنهم ما وجدوا فيه خيراً -والعياذ بالله- فهذه الفترة قليلة (فقليلاً ما يؤمنون) يعني مثل هذه الفترة الوجيزة.

إذاً: (قليلاً ما يؤمنون) يعني: إيماناً قليلاً.

إما أن إيمانهم ببعض الكتاب، أو أن المؤمن منهم قليل، أو زماناً قليلاً يؤمنون وهو زمن الاستفتاح، لكن لما بعث فعلاً النبي الذي كانوا يستفتحون به كفروا، فإيمانهم كان إيماناً مؤقتاً لفترة قصيرة من الزمن، أو عند بلوغ الروح التراقي يؤمنون بحقيقة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159]، والهاء هنا تعود على أهل الكتاب، أو: الإيمان القليل وهو المذكور في قوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ) هذه الفترة فقط.

وقيل: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، وقال الواقدي -وهو تفسير غريب في هذه الآية-: يعني لا يؤمنون لا قليلاً ولا كثيراً، واستدل لصحة تفسيره بقوله: تقول: ما أقل ما يفعل فلان كذا! لشخص لا يفعل الشيء أبداً، ولا يفعله ألبتة، وقال الكسائي: تقول العرب: مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل، يعني لا تنبت شيئاً، ورد الألوسي على الواقدي تفسيره، وقال: إنه قول بارد جداً، ولو أوقد عليه الواقدي ألف سنة!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015