قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
(أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى) أي: بما لا تحب أنفسكم من الحق، ولا بد أن نقول: من الحق لأهميتها.
(اسْتَكْبَرْتُمْ) تكبرتم عن اتباعه.
هذا هو جواب (كلما)، وهو محل الاستفهام، والمراد بهذا الاستفهام التوبيخ.
(فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ) المقصود ففريقاً منهم (كذبتم) كعيسى عليه السلام، (وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)، وعبر عن الماضي بالمضارع لحكاية الحال الماضية، أي: قتلتم من الأنبياء كزكريا ويحيى.
هذا الذي اعتمده السيوطي.
قوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ) قيل: أصلها بما لا تهواه أنفسكم، وحذفت الهاء حتى لا تطول الكلمة، (اسْتَكْبَرْتُمْ) يعني: استكبرتم عن إجابة هذا الرسول احتقاراً للرسل واستبعاداً للرسالة، وأصل الهوى الميل إلى الشيء، ويجمع على أهواء كما جاء في التنزيل، وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار، ولذلك لا يستعمل لفظ الهوى في الغالب إلا فيما ليس بحق، وفيما لا خير فيه، وهذه الآيات من ذلك، لكن قد يستعمل الهوى في الحق، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، وبعض العلماء يضعفون هذا الحديث وبعضهم يحسنه، ومنه أيضاً قول عمر رضي الله تعالى عنه في أسارى بدر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.
أي: ولم يحب ما قلت، وقالت عائشة رضي الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) والحديثان أخرجهما مسلم، فهذه من المواضع القليلة التي يستعمل فيها الهوى في غير سياق الذم، لكن الغالب استعماله فيما لا خير فيه وفيما ليس بحق.
(فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) قدم فريقاً في الموضعين للاهتمام، وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، والتقديم أحياناً يكون للقصر، لكن المقصود به هنا للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم، ثم هنا محذوف وهو كلمة (منهم)، يعني: فريقاً منهم كذبتم وفريقاً منهم تقتلون، وبدأ بالتكذيب ثم بعد ذلك ثنى بالقتل، لماذا؟ لأن التكذيب هو أول ما يفعلونه بالشخص، يبدءون أولاً بالتكذيب وبعد التكذيب يقتلونه، ولأنه المشترك بين المكذوب والمقتول، فيكذبون الرسول، وحتى الذي يقتلونه فإنهم لا يقتلونه إلا بعدما يكذبونه.
ويلاحظ في السياق: أن الخطاب لبني إسرائيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه قاعدة عظيمة جداً لفهم طبيعة هؤلاء المجرمين السفاحين القتلة اليهود لعنهم الله، حيث نسب الله القتل إليهم مع أن القتلة هم آباؤهم ولم ذاك؟ لأنهم يرضون بهذا القتل، ولحوق مذمته بهم، والمذمة ما زالت تلحق أيضاً بهؤلاء الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لرضاهم عن ذلك، وكما أشرنا من قبل؛ فإن نسبة هذه الأفعال إلى اليهود في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن الطبيعة واحدة، الطبيعة الخبيثة اللئيمة والغدر والذل والهوان والخيانة وكل هذه الأخلاق الذميمة، فإن قلوب اليهود هي وعاء مستقر دائم لها، لا ينفك اليهودي أبداً عن هذه الأخلاق في كل الأمم -وهذه قاعدة- بغض النظر حتى عن الأدلة الشرعية، فبالاستقراء لا تزال فيهم هذه الصفات مغروسة في طباعهم لا يستطيعون منها فكاكاً ولا خلاصاً، والواقع الذي نعيشه خير شاهد على ذلك، وقد اهتم القرآن الكريم بالربط بين موسى ومحمد عليهما السلام، والربط بين القرآن وبين التوراة، وسردت كثير جداً من آيات القرآن الكريم للحديث عن بني إسرائيل، وكما تلاحظون فإن سورة البقرة بعامتها في الكلام على أحوال بني إسرائيل، إشارة إلى علاقة خصبة بين الأمة المحمدية وبين الأمة الإسرائيلية، هذه العلاقة التي ستستمر إلى آخر الزمان، حينما ينزل المسيح عليه السلام، وكل ما يحصل الآن في هذا الزمان هو عبارة عن تهيئة لما يؤمنون هم به ونؤمن نحن به، أمر واحد يؤمن به اليهود والنصارى والمسلمون، وهو أنه لا بد من صدام وملحمة عظيمة جداً، ومقتلة كبيرة تحصل بين أهل الإيمان وأهل الإسلام وبين هؤلاء الكافرين، مع اختلاف العقائد، وهم يجزمون بها قطعاً بلا شك وبلا جدال، لكن لا يظهرون لنا هذا، ويجزمون أن كل التحركات الموجودة الآن في العالم والتغييرات التي تحصل هي تهيئة لنزول المسيح المنتظر، هذا كلام اليهود في عام (2000)، وهم يحددون سنة ألفين لمجيء المسيح المنتظر الذي يحكم العالم -بزعمهم- من القدس ويعيد إليها اليهود، والنصارى يعتقدون نفس الشيء، لكن النصارى يعتقدون أن المجيء الثاني للمسيح هو بصفته -والعياذ بالله- إلهاً، والمسلمون يعتقدون أيضاً بمجيء المسيح، فالكل مجمعون على مجيء المسيح ولكن مع اختلافنا في حقيقة هذا المسيح؛ لأن اليهود يقولون: إن المسيح لم يأت بعد، والذي أتى هو ساحر وكذاب، ويسبون المسيح عليه السلام، ويقولون: إن المسيح الحقيقي هو الذي ننتظره، وسيأتي في آخر الزمان، وهم سيتبعونه، وهذا المسيح هو المسيح الدجال الأعور الكذاب، فهذا هو الذي سيتبعه اليهود كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون يعتقدون بمجيء مسيح الضلالة المسيح الدجال، ومسيح الهدى وهو رسول الله عيسى عليه السلام ينزل من السماء ليحسم هذه المعركة، ويقتل بحربته الدجال، ويحكم بالقرآن وبالإسلام، ولا نريد التفصيل في هذا المعنى، لكن كل الأحداث التي تدور تنبع من هذه العقيدة، والتحضير لموقعة (هرم جد)، التي هي الملحمة الكبرى التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كائنة لا محالة، وستكون الكلمة العليا والظهور فيها للمسلمين كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
قلنا: نسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم، وعبر بالمضارع للحال الماضية استحضاراً لصورتها، ولفظاعتها واستعظامها، أو يكون (وفريقاً كذبتم) في الماضي (وفريقاً تقتلون) مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل، ففواصل الآيات التي سبقتها كلها أفعال مضارعة بهذه الصيغة، فهذه تكون من باب المشاكلة لهذه الأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل السابقة، أو (وفريقاً تقتلون) إشارة إلى أنكم مستمرون في ذلك كما فعل آباؤكم في عهد موسى عليه السلام ومن بعده في قتل الأنبياء، وإنكم على ما كان عليه آباؤكم، فقد حاولوا بالفعل قتل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: (وفريقاً تقتلون) تحاولون قتله، ولولا أني عصمته لقتلتموه، ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، فالمضارع للحال، ولا ينافيه قتل البعض، والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة، سواء ترتب عليها القتل أو لا، (فريقاً تقتلون) إما أن يكون قتلاً حقيقاً للبعض، وإما أن يكون تسبباً في القتل ومباشرة لأسبابه كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث أنهم حاولوا قتله.
وقيل: لا حاجة إلى التعميم، ولا أن نقول: فريقاً قتلتم، وفريقاً باشرتم الأسباب معه؛ لأن الذي وقع منهم مع النبي عليه الصلاة والسلام كان قتلاً بالحقيقة، فإنه عليه الصلاة والسلام قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع في الصحيح بلفظ: (وهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم صرح بهذا قرب وفاته، وكأن الله سبحانه وتعالى كتب له أيضاً ثواب الشهادة عليه الصلاة والسلام؛ لأن أثر هذا السم ظل معه حتى قال: (هذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم)، أي: هذا أوان خروج روحي ومفارقة الحياة، نتيجة لذلك السم الذي وجده بعدما نهش نهشة بسيطة من هذه الذراع المسمومة.
ونفهم من ذلك: أن قتل النبي عليه الصلاة والسلام لم يتحقق منهم زمان نزول الآية، بل الذي وقع مباشرة الأسباب، ولم يكن عليه الصلاة والسلام قد فارق الحياة، فالمقصود هنا من قوله: (فريقاً تقتلون) أيضاً مباشرة الأسباب، فلابد من التعميم بأن نقول بالقتل حقيقة أو بمباشرة الأسباب، أي: تعميم النوعين.
وقال بعض العلماء: لا حاجة إلى التعميم، بل نقول: قتل حقيقي فقط؛ لأنهم بالفعل قتلوا النبي عليه الصلاة والسلام، ورد فريق آخر من العلماء بأن هذه الآيات لما نزلت لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام قد فارق الحياة بعد، ولم يكن بعد قد أفضى إلى الرفيق الأعلى، فلابد من التعميم بذكر النوعين، القتل المباشر أو التسبب في القتل كما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان حياً وقت نزول هذه الآيات.