وفي الباب الخامس عشر من الإنجيل المذكور أيضاً: (فأما إذا جاء الفارقليد الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينشق، وهو يشهد لأجلي، وأنتم تشهدون؛ لأنكم معي من الاتباع).
وفي الباب السادس عشر منه: (لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق -يعني: أرفع إلى السماء- لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليد، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطيئة وعلى بر وعلى حكم، أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد، وأما على الحكم فإن رئيس هذا العالم فارقليد، وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله، وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بما سيأتي، وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي، ويخبركم بجميع ما هو للأب)، ومن أمعن النظر في هذه العبارات ولاحظ ما اشتملت عليه من الفحاوى والإشارات جزم بأن (الفارقليد) هو محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي ظهر بعد عيسى عليه السلام، وشهد لعيسى بالنبوة والرسالة، ومجده، وبرأه مما افتراه عليه النصارى من دعوى الربوبية، ومما افتراه عليه اليهود من كونه ساحراً كذاباً، وعلى والدته من كونها غير طاهرة الذيل بريئة الساحة، وهو الذي وبخ العالم -سيما اليهود- على الخطايا، ولاسيما خطيئة الكفر بعيسى عليه السلام، والطعن في والدته الطاهرة البتول، وهو الأمين الصادق الذي علم جميع الحقائق، وهو الذي أبان من الأسرار ما لم تطق تحمله قبل مجيئه الأفكار، وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، صلى الله عليه وسلم.
وفسر العلامة ابن قتيبة قوله: (روح الحق الذي من الأب ينبثق) بقوله: أي: يصدر بكلام الله المنزل، واستدل بقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، والمراد به هنا: القرآن الكريم؛ لأنه هو الذي يشهد للمسيح بالنبوة والنزاهة عما افتري عليه، وبأنه روح الله وكلمته وصفيه ورسوله، كما شهد الحواريون الذين كانوا معه واهتدوا بهديه، ولم يثبت شهادة كتاب غير القرآن بذلك، فتعين أن يكون هو المراد.
أي: أن القرآن هو الكتاب الذي جاء بعد المسيح عليه السلام ينزه المسيح عن الربوبية، وينزهه عن السب الذي سبه إياه اليهود لعنهم الله وسبوا أمه به، فالقرآن هو الكتاب الذي أفاض في شأن عيسى، وفي بيان أنه كان نبياً رسولاً، وأفاض في مدح مريم عليها السلام، ولم تثبت شهادة أي كتاب بعد الإنجيل بذلك سوى القرآن الكريم.
ثم تأمل قول المسيح عليه السلام: (إنه خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليد) فستجد فيه إشارة إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من المسيح عليه السلام؛ لأنه يقول لهم: (إنه خير لكم أن أنطلق)؛ لأنه لا يبعث محمد حتى يرفع المسيح عليه السلام، ففي هذا إشارة إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من المسيح عليه السلام.
وأما لفظ (فارقليد) فهو يوناني الأصل، قيل: أصله فاركليد، وألـ (ف) تكتب أحياناً فا، ومعناه: المعزي والمعين والوكيل أو الشافع، وقيل فاركليثود فيكون قريباً من معنى محمد وأحمد.
وطبعاً هناك عشرات من العلماء النصارى الذين أسلموا ألفوا في هذا الموضوع، منهم يدعى عبد الأحد داود، حيث كان من كبار علمائهم المتبحرين جداً في علومهم، ثم أسلم لله سبحانه وتعالى، وألف كتباً اشتهر منها كتابان: (محمد في التوراة والإنجيل) وأيضاً (الرد على أهل الصليب)، وكان يدعى: الأب عبد الأحد الأشوري أو الإلداني، وكان له شأن رفيع عندهم، ولكنه أسلم وانتصر للتوحيد، وله بحوث قيمة جداً في هذا الموضوع.
وأيضاً كما حكينا لكم من قبل عبد الله الترجمان، كان أكبر علماء النصارى، وكذلك الهجري أسلم بسبب هذا النص الذي تلوناه عليكم الآن، وله قصة معروفة.
ومما يذكر في هذا المقام أن الشيخ عبد الوهاب النجار حكى في كتابه (قصص الأنبياء) أنه تقابل مع عالم كبير جداً من علماء النصارى ومن علماء اللغة اليونانية القديمة، يدعى كارلن لينو، فسأله فقال: ما معنى كلمة (الفارقليد) التي تكلم بها المسيح عليه السلام؟ فقال له: إن الكتب والآباء يقولون: إنها بمعنى المعزي أو المعين أو الوكيل أو الشافع، فقال له: إني لست أسأل قسيساً، ولكنني أسأل الدكتور كارلن لينو الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة، أي: أنا أسألك لا كقسيس، لكن أسألك كعالم في اللغة اليونانية، أخبرني بالاشتقاق اللغوي عندكم لكلمة (الفارقليد) ما معناها؟ فقال: إنه الذي في اسمه حمد كثير، قال: يعني الذي يوافق أفعل تفضيل من حمد؟ قال: نعم، فقال له: أليس هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام؟ لأن من أسمائه: أحمد، فقال: يا أخي! أنت تعرف كثيراً، وسكت على هذا! فالشاهد: أن هذه حقيقة لغوية معروفة، فإذا رجع الإنسان إلى لغتهم عرف هذه الحقيقة، وعلم أن كلمة (فارقليد) هي عبارة عن أفعل تفضيل من الحمد، يعني: أحمد، وهذا كما قال عز وجل: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، عليه الصلاة والسلام، فالأمر واضح غاية الوضوح، ولكنهم لما ترجموا لم يذكروا كلمة أحمد، ولكن ترجموها بالمعنى؛ لأن المسيح تكلم بها بالعبرية، ولم يتكلم بها باليونانية؛ لأنه كان يتكلم باللسان العبراني، كقومه بني إسرائيل، فلما ترجمت إلى اليونانية ترجموا معنى العلم، فجعلوها الفارقليد بمعنى أحمد، وقد كانت هذه البشارة سبب إسلام الفاضل عبد الله الترجمان كما بينه في كتابه (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب)، وقد كتم النصارى بعض الأناجيل المصرحة باسم محمد؛ لكونها شجىً في حلوق أهوائهم كإنجيل برنابا ففيه التصريح بقوله: (إلى أن يجيء محمد رسول الله)، كما نقله في (إظهار الحق)، وإذا كان هذا حالهم في تراجمهم في لقب إلههم ولقب خليفته ما علم، فكيف يرجى منهم صحة بقاء لفظ محمد أو أحمد، إلا أن سيف الحق أمضى، وسهام الصواب أنفذ، فثمة من الأوصاف الصريحة والوسائل الصحيحة ما لا يبقى معه وقفة لحائر.
هذا وفي كتبهم بشائر كثيرة تعرض لذكرها جلة من العلماء يزيد عددها عن العشرين، قال الماوردي: لعل ما لم يصل إلينا منها أكثر.
وقد اقتصرنا على ما قدمنا؛ روماً للاختصار، ولسهولة الوقوف على البقية في مثل (أعلام النبوة) للماوردي و (إظهار الحق) وغيرهما.