أتحدث الآن معكم حول حديث أورده الإمام النووي في كتاب (رياض الصالحين) في باب الصدق.
إن كتاب (رياض الصالحين) من الكتب المهمة التي يقتنيها الكثير ولا يعيش معها، فالإمام النووي قسم الكتاب إلى أبواب: باب إخلاص النية، باب التوبة، باب الصبر، ثم باب الصدق، ومن طبيعته أن يأتي في كل باب بآيات ثم بأحاديث.
أورد في باب الصدق حديثاً رواه البخاري ومسلم، يذكر فيه قصة ليوشع بن نون، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء -أي: غزا في سبيل الله عز وجل- فقال لقومه: لا يتبعني ثلاثة) أي: ثلاثة أقسام من الناس لا يتبعني في الجهاد.
قال: (لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وأراد أن يبني بها ولم يبن) يعني: رجل عقد زواجه على امرأة ولكنه لم يدخل؛ وذلك لأن العبادة لاسيما الجهاد ينبغي أن يقوم العبد به وهو خالي الذهن؛ لذلك ربنا يقول: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] أي: إذا فرغت من شئون دنياك فانصب إلى عبادة ربك، فلا صلاة في حضرة الطعام، ولا أنت تدافع الأخبثين؛ وذلك لكي يكون الذهن خالياً عما سوى العبادة، فالرجل الذي عقد على امرأة ولم يدخل بها سيجاهد وهو يفكر في الدخول بها.
ثم قال: (ورجل بنى داراً -بنى بيتاً- ولما يرفع سقفها)، أي: وضع الأعمدة والجدران والقواعد وبقي السقف؛ فسيكون فكره منشغلاً بإتمام بناء الدار والسكن فيه.
ثم قال: (ورجل ملك أنعاماً -يعني: لديه مواش حوامل- وهو ينتظر النتاج) هذا أيضاً لا يتبعه.
فقوله: (غزا نبي من الأنبياء) يشير إلى أن الجهاد في الأمم السابقة كان معروفاً، وما من نبي إلا وجاهد في سبيل الله، فحدد هذه الشروط لقومه.
قال: (فلما غزا في سبيل الله اقترب له النصر -أوشك على الفتح- واقتربت الشمس من الغروب) كان في شريعتهم على قول ابن كثير: أنه لا يجوز أن يقاتل في ليلة السبت، لكن الشيخ ابن عثيمين يرى أن الظلام هو الذي سيؤخر النصر، يعني: ابن كثير يرى أنه طلب تأخير الشمس لعلة شرعية، أما في شرح رياض الصالحين يرى الشيخ محمد بن صالح رحمه الله أنه طلب ذلك؛ لأن ظلام الليل سيؤخر النصر، قال: (فتوجه إلى الشمس قائلاً: أنت مأمورة وأنا مأمور) أي: أنت مأمورة بالغروب وأنا مأمور بالغزو والجهاد.
قال: (ثم توجه إلى ربه قائلاً: اللهم احبسها علينا) يعني: لا تغرب حتى يكتمل النصر، (فأخر الله له غروب الشمس) وهذا يدل على أن الشمس مخلوقة، والرتابة في السنن الكونية لا تجعلك تثق أن هذه السنن لا تتغير: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38].
(فلما انتصر أخذ الغنائم)، والغنائم في شرع من قبلنا لا تحل لهم، وإنما حلت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم)، فكانت تنزل من السماء نار لا يعرف مصدرها، تأخذ الغنيمة وتأكلها.
قال: (نزلت النار لتأخذ الغنيمة فلم تطعمها) ما السبب في امتناع النار عن أكلها؟ قال يوشع بن نون للقوم: (فيكم غلول) والغلول: الأخذ من الغنيمة بغير حق، يقول ربنا: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161].
فمعنى الغلول: الأخذ من المال العام، فسرقة الكهرباء غلول، وتسخير السيارة قطاع عام لخدمة الأولاد غلول؛ لأنه أخذ من الأموال بغير حق، حدث ولا حرج، شخص مرتبه مائة وعشرون جنيهاً هذا مرتبه الأساسي دون الحوافز والمكافأة، ومع ذلك يبني عمارة في مدينة مصر بمليوني جنيه، فهل هذا غلول أم ليس بغلول؟ هذا هو الغلول، وماذا صنع الغلول بالغنيمة؟ نزلت النار فلم تأكل الغنيمة، فقال يوشع للقوم: (فيكم غلول، فلتخرج كل قبيلة منها واحداً يصافحني، فأخرجت كل قبيلة رجلاً فصافح الأول والثاني، فلزقت يده بيد أحدهم فقال: فيكم الغلول) أي: القبيلة هذه فيها السرقة قال: (ائتني بأعضاء القبيلة كلهم، وصافحها رجلاً رجلاً فلزقت يده بثلاثة) إذاً: هؤلاء الذين سرقوا فلما تأكد منهم قال: (فيكم الغلول، فذهبوا فجاءوا بذهب كرأس البقرة) يعني: أتوا بذهب في حجم رأس البقرة، (فوضعه في الغنيمة، فنزلت النار فأكلت الغنيمة).
هذا الحديث أورده الإمام النووي في كتاب (رياض الصالحين) ليدل على فضيلة الصدق، فالصدق منجاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة)، والكذاب يشك في نفسه، ويكاد المريب يقول: خذوني، ولكن الصادق يطمئن.