قال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا} [المزمل:15] أي: محمداً صلى الله عليه وسلم،: {شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} [المزمل:15] أي: على هذه الأمة، وعلى من أعرض، وعلى من استجاب، وعلى من أبى، ومن امتثل.
ثم قال سبحانه: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل:15]، وهو موسى بن عمران عليه السلام، جاء إلى فرعون، وحدثت المناظرة الكبرى بين فرعون وموسى، وفرعون لقب لحاكم مصر، دخل عليه موسى يدعوه إلى ربه، فقال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24].
وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، فأجرى الله الأنهار من فوقه، والجزاء من جنس العمل، وهذا إمهال واستدراج من الله الذي لا يغفل عن أي ظالم أبداً.
قال الله سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل:15]، قال فرعون لموسى: من ربك يا موسى ويا هارون؟ فقالا: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] فأجابهم فرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:51 - 52] هذا حوار بين موسى وفرعون، فماذا قال فرعون بعد ذلك الحوار؟ {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63]، وكيف يكون موسى ساحراً وقد تربى في بيتك، وأنت تعلم أمانته، ولكن هذه التهمة كانت جاهزة: (ساحر)، ثم قال فرعون لحاشيته: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:64]، تولى فرعون وسعى في المدينة وجمع السحرة الأكفاء، وجاءوا وهم يقولون: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، يقسمون بعزة فرعون، ثم سألوه: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42]، أيضاً ستصبحون من البطانة، هذا الأجر الذي يسعون إليه أن يكونوا من البطانة، ويكون لهم حكم وتمكن وقدرة، فماذا قالوا لموسى؟ {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65] أي: نحن واثقون من أنفسنا إما أن تبدأ أو نبدأ نحن، فالنتيجة معروفة مسبقاً، وهذا غرور من السحرة، فأجاب موسى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:66 - 69]، ألقى موسى العصا، فلما رأوا العصا بأعينهم، وهم أرباب المهنة عرفوا الحقيقة، فقال الله عن حالهم: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} [طه:70] الله أكبر! التحول في دقيقة من الكفر إلى الإيمان، فمن صاحب الأمر في تحول القلوب؟ إنه الله عز وجل، والقلب ما سمي قلباً إلا لشدة تقلبه.
فماذا قال فرعون؟ {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71] حتى الإيمان يحتاج إلى إذن من فرعون، كل شيء بإذن، وهكذا حالنا الآن تريد أن تصلي خذ إذناً، تحضر محاضرة خذ إذناً، تقرأ قرآناً خذ إذناً، تصلي الفجر استأذن، حتى العبادات الفردية لابد أن تستأذن فيها، {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71]، يا كذاب يا ضال أنت الذي جئت بهم، هم أربابك وأتباعك موسى لا يعرفهم، أيكون الذي علمهم السحر موسى؟! يا رجل أما تعقل؟ هذا قلب للحقائق، هذا ارتكاس وانتكاس للأمور عند الفراعنة، وهذا دأبهم وهذا عهدهم، لذلك قال فرعون: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [طه:71] هذا ما يملكه فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] قتل، وتنكيل، قطع للأيادي والأرجل من خلاف، إما أن تعودوا إلى الكفر وإما العذاب، ماذا قال السحرة؟ قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] الله أكبر! السحرة في وقت ضئيل تحولوا من قمة الكفر إلى قمة الإيمان والصبر على الأذى، فصاحب الأمر هو الله عز وجل.
ثم قال سبحانه: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:16] أي: ش