الحمد لله رب العالمين، الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ يفه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
أما بعد: فبعد أن انتهينا من سورة المعارج ننتقل إلى سورة نوح، هذا النبي الذي أرسله الله إلى قومه، فدعاهم إلى توحيده، وقد صور لنا القرآن الكريم تلك الدعوة التي قام بها نوح مع قومه، وعلى هذا سنقسم الموضوع إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ثناء الله عز وجل على نوح عليه السلام.
القسم الثاني: دعوته لقومه.
القسم الثالث: دعاؤه على قومه، واستجابة الله عز وجل له.
أولاً: ثناء الله عز وجل على نوح عليه السلام، فقد أثنى الله عليه في كتابه في مواضع عديدة، ففي سورة الإسراء يقول ربنا سبحانه: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، فأثبت الله له صفة العبودية والشكر.
يقول الحافظ ابن كثير: والشكر بالقول والقلب والجوارح، وهو أعم من الحمد، وبينهما عموم وخصوص، فالشكر أعم من الحمد؛ لأن الحمد يكون بالقلب وباللسان، بينما الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، والله يقول: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13].
يقول الزمخشري: كان إذا أكل حمد الله، فقال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني، وإذا شرب حمد الله، وقال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني، وإذا لبس حمد الله، وقال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني، فقال الله في وصفه: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، فجوارحه التي أعطاه الله إياها يسخرها في طاعة ربه عز وجل، وهو أول رسول إلى البشر، فإن قال قائل: وآدم؟ قلنا: نعم، لكننا نقول: أول رسول إلى البشر، لأن آدم يوم أن بعث لم يكن على الأرض بشر، بينما نوح يوم أن بعث كان على الأرض بشر، وهذا بنص حديث البخاري، وأثنى الله عليه أيضاً باعتباره أحد أولي العزم من الرسل، ففي الصحيح: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على توحيد الله عز وجل)، والقرن إما أن يكون جيلاً، وإما أن يكون مائة سنة.
وقد دعا قومه إلى التوحيد، لكن القوم حادوا عن عبادة ربهم لأناس صالحين، قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] قال: إنها أسماء أناس من الصالحين، لما نسخ العلم -أي: رفع من القوم- عبدوهم من دون الله عز وجل.
إذاً: مدخل الشرك للبشرية كان بالمغالاة في الصالحين، لذلك يوم أن نقول: يا قوم لا تغالوا في حبهم للدرجة التي تعبدونهم من دون الله؛ لأن ذلك يجر إلى الشرك والعياذ بالله.
أيضاً من ثناء الله عز وجل على نوح: أن الله جعل في ذريته النبوة والكتاب، فقال عنه وعن إبراهيم عليهما السلام: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:26]، فما من نبي إلا وينتهي نسبه إلى نوح عليه السلام، لأنه أول رسول إلى أهل الأرض.
إن دعوة نوح لقومه تصورها هذه السورة وسور أخرى، كسورة هود والأعراف ويونس؛ وقد وردت قصة نوح في أكثر من موضع في كتاب الله عز وجل، والدعوة إلى الله تحتاج إلى جهد وإلى مال؛ لأن أي دعوة بلا مادة لا تستطيع أن تواصل الرسالة، فضلاً عن الحرب التي تواجهها هذه الدعوة من كل قوى الدنيا بأسرها، لكنهم -والله- واهمون؛ لأن دعوة الله عز وجل لن ولم تستطع أي قوة أن تخمدها؛ لأنها نور الله.
فسيظهر دين رب العالمين، وانظروا إلى هذه البشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود: (عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب ظهور الملحمة، وظهور الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية ظهور الدجال)، فالحديث يبين أن هناك معركة تسمى بالملحمة،