تعالوا بنا لنعيش مع بعض أنواع الإيذاء في مكة والإيذاء في المدينة لأصحاب الدعوات؛ لأن البعض ممن يسلك هذا الطريق يظن أنه طريق ممهد بالورود، كلا! إن لم تبتل وتؤذ فصحح الطريق فإنك قد أخطأت، لأن طريق أصحاب الدعوات لابد فيه من الإيذاء، وإلا لما أوذي سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم، وانظروا إلى مرحلة الإيذاء في مكة: إيذاء باليد، أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد عند حجر الكعبة -ساجد يسبح بحمد ربه- فدفعوا عليه أشقاهم فخنقه بثوبه وهو ساجد، ووضع مخلفات الجزور ظهره، فجاء أبو بكر وهم يخنقونه، فقال لهم: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! فتركوا النبي صلى الله عليه وسلم واستداروا على أبي بكر ضرباً حتى أغشي عليه- أغمي عليه-، فحمل إلى بيته في حالة إغماء، فكان أول ما قال بعد أن عاد إلى رشده: أخبروني عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وكذلك في الطائف عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد، وكيف أنهم استقبلوه بالحجارة تتساقط على جسده صلى الله عليه وسلم، فيا قوم! ما قوبلنا بحجارة والحمد لله، وما خنقنا من ثيابنا ونحن سجود والحمد لله، وإنما الذي تعرض لهذا هو سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، أسوتنا وقدوتنا ومعلمنا، حجارة تتراشق عليه من الصبية والنساء والغلمان، لكن كان معه خادمه زيد بن حارثة، فكان يتلقى كل حجر برأسه دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تصل الحجارة إلا إلى قدمه الشريفة صلى الله عليه وسلم.
ثم عاد عليه الصلاة والسلام حزيناً على إعراض القوم، وفي أثناء الطريق رفع يده قائلاً: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين! أنت ربي وأنت رب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى ضعيف ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)، ضعفه الألباني رحمه الله تعالى، وصححه الذهبي وقال: لا أرى إلا أنها خرجت من مشكاة النبوة.
وأما الإيذاء باللسان فقد قالوا عنه عليه الصلاة والسلام: مجنون، شاعر، أبتر، أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً، قول بشر، يريد جاهاً، يطلب ملكاً، يبحث عن مال، ومن ذلك ما نسمعه الآن من اتهامات مبسترة ومعلبة وجاهزة ومعدة: إرهابي، وأصولي، ورجعي، ومتحجر، يريدون منا أن نرجع إلى عهود الظلام، هؤلاء حفنة خارجة عن الشرعية، عصابة تريد أن تقلب الأنظمة، وعبارات قد عفا عليها الدهر: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، ففي مجتمع المعاصي والمنكرات تصبح الطهارة تهمة، ويصبح الحجاب والنقاب رذيلة، ولبس البنطال والسقوط والتبرج فضيلة، ونزاهة اليد وطهارتها شذوذاً، والرشوة والسرقة علواً ورفعة! اختلال في المعايير كما أخبر بذلك الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم حينما قال: (إن من علامات الساعة أن يوسد الأمر إلى غير أهله)، حتى العلم الشرعي يوسد إلى غير أهله، وستعلمون كلاماً عجباً ما قال به أحد من أئمة العلم أبداً، ولا أدري هل سولت له نفسه أن يفتري على دين الله عز وجل؟! فلا ينظر إلى قول مالك، ولا أبي حنيفة، ولا الشافعي، ولا أحمد، ولا الأوزاعي، ولا البخاري، ولا كل سلف هذه الأمة، أخطأ ثم جاء ذلك المجتهد وأراد أن يطعننا في مقتل بكلمة: النقاب ليس له أصل في الإسلام، وإنما هو حرام شرعاً.
الله أكبر! سكت دهراً ونطق كفراً، والذي نفسي بيده يا ليته سكت فقط، وسنقرأ في اللقاء الثاني حججاً أوهن من خيوط العنكبوت لو كانوا يعقلون، فلصالح من؟ ولحساب من؟ ولمصلحة من يقول هذا الكلام؟! في زمن عمت فيه الفوضى، وانتشرت فيه الفاحشة، وعم فيه البلاء، وبدلاً من أن نواجه الفاحشة والرذيلة وكل ما يغضب ربنا نشن حرباً على العفاف والطهارة، فيا قوم أليس منكم رجل رشيد؟ أليس منكم رجل يتقي الله في نفسه، ويقولها ويرفع شعاره: إن قلتها مت، وإن لم تقلها مت، فقلها ومت، ففي الحالتين أنت ميت، فعش عزيزاً يا عبد الله، ولكن ماذا نقول في زمن تصدر فيه الفتوى حسب الطلب والمقاس، إنها صناعة محكمة.