الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، خلقنا من عدم وأطعمنا من جوع وكسانا من عري وهدانا من ضلال، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وهو مستو على عرشه، بائن من خلقه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء وحسب ما أراد، فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، واللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.
وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
ثم أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام الأحباب! لا يزال الحديث عن سورة القلم، ولقاؤنا اليوم مع قول ربنا سبحانه: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ * فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم:34 - 52]، بعد أن قص علينا القرآن قصة أصحاب الجنة الذين جحدوا نعمة الله، وأنكروا فضل الله عليهم، فكان الجزاء من جنس العمل، أبيدت الجنة، وجاء ذكر الجنة الأخروية؛ حتى لا يظن ظان أنها يمكن أن تبيد، أو يمكن أن تفنى كالجنة الأرضية، كلا جنات النعيم لا تفنى ولا تبيد، ولفظ الجنة من الألفاظ المشتركة في الحقل القرآني، ومعنى قولنا لفظ مشترك، أي: أنها كلمة واحدة يراد بها أكثر من معنى، كلفظ: (أمة)، وكلفظ: (الصلاة)، فالجنة تأتي في القرآن بمعنى: الحديقة، يقول ربنا سبحانه: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة:265].
ويقول ربنا سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف:32]، فلفظ الجنة يأتي ويراد به الحديقة المثمرة، ويأتي ويراد به جنة الخلد.
والحقيقة أنه ينبغي أن نكون هنا في الدنيا وأعيننا وقلوبنا معلقة بالجنة، كما كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهي الدار الباقية، وهي دار السرور التي إن دخلها العبد يسعد أيما سعادة، كما قال ربنا سبحانه: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].
ولا يمكن أن نسمي من يفوز في الدنيا بأنه فائز، فإن الفوز الحقيقي هو أن تفوز بالجنة، الفوز الحقيقي هو أن تقف على رءوس الأشهاد يوم القيامة، ووجهك يشع نوراً، وترفع كتابك بيمينك وتقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] أي: خذوا اقرءوا كتابيه، تصفحوه ففيه صلاة، وفيه قرآن، وفيه صيام، وفيه أمر بالمعروف، وفيه نهي عن المنكر، وفيه صلة رحم، وفيه ذكر وطاعة،