الثانية: قال السيوطي في (الإكليل) : استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان لا ينفع مع عدم كسب الخير فيه. وهو مردود. ففي الكلام تقدير. والمعنى:
لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل، إيمانها حينئذ، ولا ينفع نفسا لم تكسب خيرا قبل، توبتها حينئذ.
وقال الشهاب السمين: قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية إنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفسا كافرة، إيمانها الذي أوقعته إذ ذاك. ولا ينفع نفسا سبق إيمانها ولم تكسب فيه خيرا. فقد علق نفي نفع الإيمان بأحد وصفين: إما نفي سبق الإيمان فقط، وإما سبقه مع نفي كسب الخير. ومفهومه أنه ينفع الإيمان السابق وحده، وكذا السابق ومعه الخير. ومفهوم الصفة قويّ فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة. ويكون فيه قلب دليل المعتزلة، دليلا عليهم.
وأجاب ابن المنير في (الانتصاف) فقال: هذا الكلام من البلاغة يلقب (اللف) وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا، لم تكن مؤمنة قبل، إيمانها بعد. ولا نفسا لم تكسب خيرا قبل، ما تكتسبه من الخير بعد، فلفّ الكلامين فجعلهما كلاما واحدا إيجازا. وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحق.
فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود. فهي بالرد على المعتزلة أولى من أن تدل لهم.
وقال ابن الحاجب في (أماليه) : الإيمان قبل مجيء الآية نافع ولو لم يكن عمل صالح غيره، ومعنى الآية: لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح، لم يكن الإيمان قبل الآية، أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها. فاختصر للعلم.
ونقل الطيبيّ كلام الأئمة في ذلك. ثم قال: المعتمد ما قال ابن المنير وابن الحاجب. وبسطه: أن الله تعالى، لما خاطب المعاندين بقوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ.. [الأنعام: 155] الآية، علل الإنزال بقوله: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ [الأنعام: 156] إلخ، إزالة للعذر وإلزاما للحجة. وعقبه بقوله: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ إلخ، تبكيتا لهم وتقريرا لما سبق من طلب الاتباع. ثم قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ ... الآية. أي أنه أنزل هذا الكتاب المنير كاشفا لكل ريب وهاديا إلى الطريق المستقيم ورحمة من الله للخلق، ليجعلوه زادا لمعادهم فيما يقدمونه من الإيمان والعمل الصالح. فجعلوا شكر النعمة أن كذبوا بها ومنعوا من الانتفاع بها.
ثم قال: هَلْ يَنْظُرُونَ.. الآية. أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا بنزول الملائكة بالعقاب الذي يستأصل شأفتهم. كما جرى لمن مضى من الأمم قبلهم.