ونَظير هذا: ما وقَعَ من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع قُرَيْشٍ في صُلْح الحُدَيْبية مِن أن مَن ذهَب من المُسلِمين إليهم لا يَرُدُّونه، ومَن جاء من المُشرِكين مُسلِمًا إلى الرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فإنَّه يَرُدُّه؛ فعِندما تَنظُر إلى هذا الشَّرْطِ تَجِد أنَّه شرطٌ الرابح فيه هُمُ المُشرِكون؛ ولهذا قال عُمرُ - رضي الله عنه -: لمَ نعطِي الدَّنيَّة في دِيننا؟ ولماذا نَتَنازَل هذا التَّنازُلَ ونحن على الحَقِّ وهُم على الباطِل؟ ! ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أجابه بقوله: "إِنِّي رَسُولُ الله وَلَسْتُ عَاصِيَهُ وَهُوَ نَاصِرِي"، فانظُرْ إلى الثِّقة بالله في هذا المَقامِ الضَّنْكِ الذي لم يَصبِر عليه أَجلَدُ الصّحابة كعُمرَ - رضي الله عنه -؛ أَجابه - صلى الله عليه وسلم - بكلام هادِئ، كلام واثِق بالله، جازِم بالنَّصْر: "إِنِّي رَسُولُ الله"، والرسول يَأتَمِر بأَمْر مَن أَرسَله "وَلَسْتُ عَاصِيَهُ"، هذا بالنِّسبة للطاعة؛ ثُمَّ الثِّقَة: "وَهُوَ نَاصِرِي"، يقول مُوسَى لمَّا قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، فما أعظَمَ ثِقةَ الرُّسُل عليهم الصَّلاة والسلام بنَصْر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ونَسأَل الله تعالى أن يَهَب لنا من الثِّقة به ما يَزداد به إيمانُنا وتَوكُّلُنا.
وأَقول: إن الرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَتَى بهذه الشُّروطِ مع أن فيها غَضاضةً على المُسلِمين في ظاهِرها، ولكن كان في هذا الاتِّفاقِ فَتْح عَظيم سمَّاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- فَتحًا فقال: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10]، فسَمَّاه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فَتْحًا؛ وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا مَنْ جَاءَ إِلَيْنَا مِنْهُمْ فَرَدَدْنَاهُ فَسَيَجْعَلُ الله لَهُ فَرَجًا، وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَلَا نُرِيدُهُ لَا رَدَّهُ الله"، وحصَل هذا في قِصَّة أبي بَصير - رضي الله عنه -؛ حتَّى انتَهى الأَمْر إلى إِلْغاء الشَّرْط من قِبَل المُشرِكين.
والشاهِدُ: أن صاحِب الحَقِّ وإِنْ أتَى بما ظاهِره الغَضاضة فإنَّه واثِق؛ فهنا قال تعالى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.