حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ، وَحَدَّثني يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، قَالَا جَمِيعًا فِي حَدِيثِهِمَا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، قَالَ: " بَيْنَمَا نَحْنُ نَطُوفُ بِالْبَيْتِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ يَطُوفُ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَدْنُو الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ كَذَا؟ فَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ مَرَّتَيْنِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ "، قَالَ: " فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ أَوْ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونِ، فَيُنَادِي بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ تَعْرِيفِهِ إِيَّاهُ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ حَتَّى يُعَرِّفَهُ تَفَضُّلَهُ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ لَهُ عَنْهَا، فَكَذَلِكَ فِعْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي مُحَاسَبَتِهِ إِيَّاهُ بِمَا أَبْدَاهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَبِمَا أَخْفَاهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَغْفِرُ لَهُ كُلَّ ذَلِكَ بَعْدَ -[146]- تَعْرِيفِهِ تَفَضُّلَهُ وَتَكَرُّمَهُ عَلَيْهِ، فَيَسْتُرُهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَغْفِرَةُ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ إِلَّا بِمَا كَسَبَتْهُ أَنْفُسُهُمْ مِنْ ذَنْبٍ، وَلَا مُثَابِينَ إِلَّا بِمَا كَسَبَتْهُ مِنْ خَيْرٍ، قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَغَيْرُ مُؤَاخَذٍ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْ فِعْلِهِ، أَوْ تَرْكِ مَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ. فَإِنْ قَالَ: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَا مَعْنَى وَعِيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيَّانَا عَلَى مَا أَخْفَتْهُ أَنْفُسُنَا بِقَوْلِهِ: {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] إِنْ كَانَ {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] وَمَا أَضْمَرَتْهُ قُلُوبُنَا وَأَخْفَتْهُ أَنْفُسُنَا مِنْ هَمٍّ بِذَنْبٍ، أَوْ إِرَادَةٍ لِمَعْصِيَةٍ، لَمْ تَكْتَسِبْهُ جَوَارِحُنَا؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثناؤُهُ قَدْ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ لَهُمْ عَمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا هَمَّ بِهِ أَحَدُهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي فَلَمْ يَفْعَلْهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَعْدِهِ إِيَّاهُمُ الْعَفْوَ عَنْ صَغَائِرِ ذُنُوبِهِمْ إِذَا هُمُ اجْتَنِبُوا كَبَائِرَهَا، وَإِنَّمَا الْوَعِيدُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] عَلَى مَا أَخْفَتْهُ نُفُوسُ الَّذِينَ كَانَتْ أَنْفُسُهُمْ تُخْفِي الشَّكَّ فِي اللَّهِ، وَالْمِرْيَةَ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ، أَوْ فِي نُبُوَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ فِي الْمَعَادِ وَالْبَعْثِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَمَنْ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِهِمَا أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: {أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] عَلَى الشَّكِّ وَالْيَقِينِ. غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْمُتَوَعَّدَ بِقَوْلِهِ: {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] هُوَ مَنْ كَانَ إِخْفَاءُ نَفْسِهِ مَا تُخْفِيهِ الشَّكَّ وَالْمِرْيَةَ فِي اللَّهِ، وَفِيمَا يَكُونُ الشَّكُّ فِيهِ بِاللَّهِ كُفْرًا، وَالْمَوْعُودُ الْغُفْرَانَ بِقَوْلِهِ: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] هُوَ الَّذِي أَخْفَى، وَمَا يُخْفِيهِ الْهَمَّةُ -[147]- بِالتَّقَدُّمِ عَلَى بَعْضِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي كَانَ جَائِزًا ابْتِدَاءُ تَحْلِيلِهِ وَإِبَاحَتِهِ، فَحَرَّمَهُ عَلَى خَلْقِهِ جَلَّ ثناؤُهُ، أَوْ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهِ مِمَّا كَانَ جَائِزًا ابْتِدَاءً إِبَاحَةُ تَرْكِهِ، فَأَوْجَبَ فِعْلَهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَإِنَّ الَّذِي يَهِمُّ بِذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا هُوَ لَمْ يُصَحِّحْ هَمَّهُ بِمَا يَهِمَّ بِهِ، وَيُحَقِّقْ مَا أَخْفَتْهُ نَفْسُهُ مِنْ ذَلِكَ بِالتَّقُّدُّمِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَأْخُوذًا كَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ» فَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَا هُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ اللَّهُ بِهِ مُؤْمِنِي عِبَادِهِ ثُمَّ لَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَا أَخْفَتْهُ نَفْسُهُ شَكًّا فِي اللَّهُ وَارْتِيَابًا فِي نُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ، فَذَلِكَ هُوَ الْهَالِكُ الْمُخَلَّدُ فِي النَّارِ، الَّذِي أَوْعَدَهُ جَلَّ ثناؤُهُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ بِقَوْلِهِ: {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 284] أَيُّهَا النَّاسُ، فَتُظْهِرُوهُ {أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] فَتَنْطَوِي عَلَيْهِ نُفُوسُكُمْ، {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فَيُعَرِّفُ مُؤْمِنَكُمْ تَفَضَّلَهُ بِعَفْوِهِ عَنْهُ، وَمَغْفِرَتَهُ لَهُ، فَيَغْفِرُهُ لَهُ، وَيُعَذِّبُ مُنَافِقَكُمْ عَلَى الشَّكِّ الَّذِي انْطَوَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِهِ وَنُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ