حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف: 5] قَالَ: «لَوْ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَمْ يُؤْمِنُوا لَضُرِبَ عَنْهُمُ الذِّكْرُ صَفْحًا» قَالَ: «الذِّكْرُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ -[550]- بِهِ وَنَهَاهُمْ، صَفْحًا لَا يَذْكُرُ لَكُمْ مِنْهُ شَيْئًا» وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ فَنَتْرُكُكُمْ وَنُعْرِضُ عَنْكُمْ، لِأَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ لَا تُؤْمِنُونَ بِرَبِّكُمْ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَتْبَعَ ذَلِكَ خَبَرَهُ عَنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ قَبْلَ الْأُمَمِ الَّتِي تَوَعَّدَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي تَكْذِيبِهَا رُسُلِهَا، وَمَا أَحَلَّ بِهَا مِنْ نِقْمَتِهِ، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف: 5] وَعِيدٌ مِنْهُ لِلْمُخَاطَبِينَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، إِذْ سَلَكُوا فِي التَّكْذِيبِ بِمَا جَاءَهُمْ عَنِ اللَّهِ رَسُولَهُمْ مَسْلَكَ الْمَاضِينَ قَبْلَهُمْ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: (إِنْ كُنْتُمْ) بِكَسْرِ الْأَلْفِ مِنْ «إِنْ» بِمَعْنَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا إِذْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ: {" أَنْ} [البقرة: 25] «بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ» أَنْ "، بِمَعْنَى: لِأَنْ كُنْتُمْ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ فَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ أَنْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: فُتِحَتْ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: لِأَنْ كُنْتُمْ وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: مَنْ فَتَحَهَا فَكَأَنَّهُ أَرَادَ شَيْئًا مَاضِيًا، فَقَالَ: وَأَنْتَ -[551]- تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: أَتَيْتُ أَنْ حَرَمْتَنِي، تُرِيدُ: إِذْ حَرَمْتَنِي، وَيَكْسِرُ إِذَا أَرَدْتَ: أَتَيْتُ إِنْ تَحْرِمْنِي وَمِثْلُهُ: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ} [المائدة: 2] وَ (إِنْ صَدُّوكُمْ) بِكَسْرٍ وَبِفَتْحٍ. {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6] قَالَ: وَالْعَرَبُ تُنْشِدُ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ:
أَتَجْزَعُ أَنْ أُذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا ... جِهَارًا وَلَمْ تَجْزَعْ لَقَتْلِ ابْنِ حَازِمِ
قَالَ: وَيُنْشَدُ:
أَتَجْزَعُ أَنْ بَانَ الْخَلِيطُ الْمُوَدَّعُ ... وَحَبَلُ الصَّفَا مِنْ عَزَّةِ الْمُتَقَطِّعُ
قَالَ: وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَيْتَيْنِ مَا فِي صَاحِبِهِ مِنَ الْكِسَرِ وَالْفَتْحِ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنَّ الْكَسْرَ وَالْفَتْحَ فِي الْأَلْفِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا تَقَدَّمْ «أَنْ» وَهِيَ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ كَسَرُوا أَلِفَهَا أَحْيَانًا، فَمَحَّضُوا لَهَا الْجَزَاءَ، فَقَالُوا: أَقُومُ إنْ قُمْتَ، وَفَتَحُوهَا أَحْيَانًا، وَهُمْ يَنْوُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَقَالُوا: أَقُومُ أَنْ قُمْتَ، بِتَأْوِيلِ لِأَنْ قُمْتَ، فَإِذَا كَانَ الَّذِي تَقَدَّمَهَا مِنَ الْفِعْلِ مَاضِيًا لَمْ يَتَكَلَّمُوا إِلَّا بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ «أَنْ» فَقَالُوا: قُمْتُ أَنْ قُمْتَ، وَبِذَلِكَ جَاءَ التَّنْزِيلُ، وَتَتَابَعَ شِعْرُ الشُّعَرَاءِ