ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ " {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَلَا مُجَادَلَةَ أَشَدُّ مِنَ السَّيْفِ أَنْ يُقَاتَلُوا حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يُقِرُّوا بِالْخَرَاجِ ". وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِقَوْلِهِ {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] إِلَّا الَّذِينَ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَنَصَبُوا دُونَهَا الْحَرْبَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَ غَيْرُ ظَالِمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلَّا مَنْ لَمْ يُؤَدِّ الْجِزْيَةَ؟ قِيلَ: إِنَّ جَمِيعَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ظَلَمَةً، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِقَوْلِهِ {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] ظُلْمَ أَنْفُسِهِمْ. وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أُولَئِكَ جَادِلُوهُمْ بِالْقِتَالِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِيهِ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَذِنَ لِلْمُؤْمِنِينَ -[421]- بِجِدَالِ ظَلَمَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِغَيْرِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ، بِقَوْلِهِ {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] فَمَعْلُومٌ إِذْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُمْ فِي جِدَالِهِمْ، أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِي جِدَالِهِمْ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، غَيْرُ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْهُمْ غَيْرُ جَائِزٍ جِدَالُهُ إِلَّا فِي غَيْرِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَقَدْ صَارَ فِي مَعْنَى الظَّلَمَةِ فِي الَّذِي خَالَفَ فِيهِ الْحَقَّ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، تَبَيَّنَ أَنْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى بِقَوْلِهِ {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 46] أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَزَعَمَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّهُ لَا خَبَرَ بِذَلِكَ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ فِطْرَةِ عَقْلٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكُمَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا مِنْ خَبَرٍ أَوْ عَقْلٍ.