قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا، يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ عَطَاءٍ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ، " حُجَّتُهُمْ: قَوْلُهُمْ رَجَعْتَ إِلَى قِبْلَتِنَا " فَقَدْ أَبَانَ تَأْوِيلُ مَنْ ذَكَرْنَا تَأْوِيلَهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَوْلَهُ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِهِ، وَأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِمْ لِمَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ مَا كَانَ مَنْفِيًّا عَمَّا قَبْلَهُمْ، كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: مَا سَارَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا أَخُوكَ " إِثْبَاتٌ لِلْأَخِ مِنَ السَّيْرِ مَا هُوَ -[688]- مَنْفِيٌّ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] نَفْيٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ خُصُومَةٌ وَجَدَلٌ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعْوَى بَاطِلَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ بِسَبَبِ تَوَجُّهِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ قِبَلَ الْكَعْبَةِ، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ لَهُمْ قَبْلَهُمْ خُصُومَةً وَدَعْوَى بَاطِلَةً بِأَنْ يَقُولُوا: إِنَّمَا تَوَجُّهْتُمْ إِلَيْنَا وَإِلَى قِبْلَتِنَا؛ لِأَنَّا كُنَّا أَهْدَى مِنْكُمْ سَبِيلًا، وَأَنَّكُمْ كُنْتُمْ بِتَوَجُّهِكُمْ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى ضَلَالٍ وَبَاطِلٍ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى الْآيَةِ بِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، فَبَيَّنَ خَطَأَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَأَنَّ «إِلَّا» بِمَعْنَى الْوَاوِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ لَكَانَ النَّفْي الْأَوَّلُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي تَحَوُّلِهِمْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ بِوُجُوهِهِمْ مُبَيِّنًا عَنِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] إِلَّا التَّلْبِيسَ الَّذِي يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ، أَوْ يُوصَفَ بِهِ. هَذَا مَعَ خُرُوجِ مَعْنَى الْكَلَامِ إِذَا وَجَّهْتَ «إِلَّا» إِلَى مَعْنَى الْوَاوِ، وَمَعْنَى الْعَطْفِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ إِلَّا فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ إِلَّا مَعَ اسْتِثْنَاءٍ سَابِقٍ قَدْ تَقَدَّمَهَا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: سَارَ الْقَوْمُ إِلَّا عَمْرًا إِلَّا أَخَاكَ، بِمَعْنَى: إِلَّا عَمْرًا وَأَخَاكَ، فَتَكُونُ «إِلَّا» حِينَئِذٍ مُؤَدِّيةً عَمَّا تُؤَدِّي عَنْهُ الْوَاوُ لِتَعَلُّقِ «إِلَّا» -[689]- الثَّانِيَةِ بِـ «إِلَّا» الْأُولَى، وَيُجْمَعُ فِيهَا أَيْضًا بَيْنَ «إِلَّا» وَالْوَاوِ، فَيُقَالُ: سَارَ الْقَوْمُ إِلَّا عَمْرًا وَإِلَّا أَخَاكَ، فَتُحْذَفُ إِحْدَاهُمَا فَتَنُوبُ الْأُخْرَى عَنْهَا، فَيُقَالُ: سَارَ الْقَوْمُ إِلَّا عَمْرًا وَأَخَاكَ، أَوْ إِلَّا عَمْرًا إِلَّا أَخَاكَ، لِمَا وَصَفْنَا قَبْلُ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِمُدَّعٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ «إِلَّا» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى الْوَاوِ الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الْعَطْفِ. وَوَاضِحٌ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ فِي كَلَامِهِ: النَّاسُ كُلُّهُمْ لَكَ حَامِدُونَ إِلَّا الظَّالِمَ الْمُعْتَدِيَ عَلَيْكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِعَدَاوَتِهِ وَلَا بِتَرْكِهِ الْحَمْدَ لِمَوْضِعِ الْعَدَاوَةِ. وَكَذَلِكَ الظَّالِمُ لَا حَجَّةَ لَهُ، وَقَدْ سُمِّيَ ظَالِمًا؛ لِإِجْمَاعِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى تَخْطِئَةِ مَا ادَّعَى مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ. وَكَفَى شَاهِدًا عَلَى خَطَأِ مَقَالَتِهِ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى تَخْطِئَتِهَا. وَظَاهِرٌ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا هَا هُنَا نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَهُودًا، وَنَصَارَى، فَكَانُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ، وَكَانَتْ حُجَّةُ مَنْ يَحْتَجُّ مُنْكَسِرَةً؛ لِأَنَّكَ تَقُولُ لِمَنْ تُرِيدُ أَنْ تَكْسِرَ عَلَيْهِ حُجَّتَهُ: إِنَّ لَكَ -[690]- عَلَيَّ حُجَّةً، وَلَكِنَّهَا مُنْكَسِرَةٌ، وَإِنَّكَ لَتَحْتَجُّ بِلَا حُجَّةٍ، وَحُجَّتُكَ ضَعِيفَةٌ. وَوَجْهُ مَعْنَى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] إِلَى مَعْنَى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حُجَّةً وَاهِيَةً أَوْ حُجَّةً ضَعِيفَةً. وَهِيَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: «إِلَّا» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى «لَكِنْ» ، وَضَعْفُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ابْتِدَاءٌ بِمَعْنَى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ؛ لِأَنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ جَاءَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِمَا قَدْ ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَقْصِدْ فِي ذَلِكَ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ صِفَةِ حُجَّتِهِمْ بِالضَّعْفِ وَلَا بِالْقُوَّةِ وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً؛ لِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ فِيهِ الْإِثْبَاتَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا قَدْ نُفِيَ عَنِ الَّذِينَ قَبْلَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الصِّفَةِ